مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الاساسية المجلد 1

اشارة

نام كتاب: مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية

موضوع: قواعد فقهي

نويسنده: مازندراني، علي اكبر سيفي

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 3

تاريخ نشر: ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

[المدخل]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي علّم الإنسان بعد جهل، و هداه بعد ضلال، و فقّهه بعد غفلة، و الصلاة و السلام علي محمّد رسول اللّه الّذي أرسله ربّه للناس كافّة بشيرا و نذيرا و هاديا و معلّما، ليهلك عن بيّنة و يحيا من حيّ عن بيّنة، و علي آله الطيّبين المنتجبين الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا.

و بعد، فلا يخفي علي روّاد العلم و طلّاب الهداية أنّ العلوم تختلف أهمّيتها و مكانة موضوعها، و أنّ لعلم الفقه المكانة السامية و الأهمّية الخاصّه.

فهو علم واسع، و بحر شاسع، اصوله ثابتة مقرّرة، و فروعه ثابتة محرّرة، جمعه لنا علماؤنا من قديم و حديث، و بذلوا فيه الجهد الحثيث، حتّي أوصلوه إلينا و علّموه إيّانا، و حفظوه في مصنّفاتهم الكثيرة، فما تركوا فيها من صغير و لا كبير إلّا و ذكروه، و جمعوا فيها كلّ شارد و وارد و كلّ قريب و بعيد، و لقد نوّعوا هذا الفقه فنونا و أنواعا، و تطاولوا في استنباطه يدا و باعا، فجزاهم اللّه عن صاحب الشريعة الغرّاء خير ثواب و أفضل جزاء.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 4

و لقد أجاد مؤلّف هذا الكتاب- سماحة الأستاذ الشيخ علي أكبر السيفي المازندرانيّ- الماثل بين يديك عزيزنا القارئ حيث سعي جاهدا بطرح بعض القواعد الفقهية الجديدة باحثا عنها في محاور أساسية باسلوب عصريّ جديد.

و نحن في الوقت الّذي نثمّن الجهود الجبّارة للشيخ المؤلّف نرجو من اللّه

جلّ شأنه أن يوفّقه و إيّانا لخدمة دينه القويم و يهدينا إلي صراطه المستقيم، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 5

[مقدمة المؤلف]

تقديم: بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* الحمد للّه ربّ العالمين. أحمده استتماما لنعمته، و استسلاما لعزّته، و استعصاما من معصيته. و أستعينه فاقة إلي كفايته.

و الصّلاة علي محمّد عبده و رسوله المصطفي، أرسله بالهدي و دين الحق، و جعله بلاغا لرسالته، و كرامة لأمّته، و أنزل عليه القرآن نورا لا تطفأ مصابيحه، و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و فرقانا لا يخمد برهانه.

و السّلام علي آله المعصومين المكرّمين الذين هم معادن الايمان و بحبوحاته، و ينابيع العلم، و أساس الدين، و عماد اليقين.

و نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لمعرفتهم و طاعتهم، و نشر علومهم و معارفهم، و يرزقنا شفاعتهم يوم نأتيه فردا.

و أما بعد فلا يخفي علي سالك طريق الفقاهة و طالب ملكة الاجتهاد عظم خطر القواعد الفقهية و دخلها الأساسي في الاجتهاد الفعّال و دورها المفتاحي في استنباط الأحكام.

و ذلك لعدم اختصاص هذه القواعد بفرع أو باب خاص، بل هي سارية في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 6

مختلف الأبواب و الفروع الفقهية.

و من نواقص النظام الدراسي في الحوزات العلمية عدم تلقي القواعد الفقهية قسما دراسيا مستقلا، كواحد من الدروس العلمية، مع أنّ دورها في الاجتهاد و الاستنباط ليس بأقل من دور القواعد الاصولية في ذلك، لو لم يكن أكثر.

و نبحث في هذه السلسلة من المباحث عن القواعد الأساسية التي يدور مدارها رحي الاجتهاد الفعّال، و أضفنا إليها قواعد جديدة مفتاحية

التي هي من بين ما لم يبحث عنه إلي الآن رغم أهميته، و بينما قلّ من استوفي البحث عنه.

و إليك نماذج منها:

- قاعدة اختلال النظام.

- قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين.

- قاعدة تعظيم الشعائر.

- قاعدة حرمة الميت المسلم.

- قاعدة العدل و الانصاف.

- قاعدة الإحسان.

- قاعدة الاحترام.

- قاعدة الاضطرار.

- قاعدة حرمة الإعانة علي الإثم.

- قاعدة سوق المسلمين.

و نحو ذلك من القواعد الأساسية المفتاحية التي لها دور مفتاحي في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 7

استنباط الأحكام المبتلي بها في يومنا العصري.

و نبحث عن هذه القواعد في أربع محاور أساسية.

الأوّل: القواعد العامة السارية في جميع أبواب الفقه، من العبادات و المعاملات.

الثاني: القواعد العبادية السارية في أبواب العبادات كلّها أو بعضها.

الثالث: القواعد المعاملية السارية في مختلف أبواب المعاملات.

الرابع: القواعد الجزائية السارية في أبواب القصاص و الديات و الحدود و التعزيرات.

و نبحث في هذا الكتاب عن القسم الأوّل من القواعد العامة.

و قبل الورود في البحث ينبغي التنبيه علي مقدّمة، و هي أنّه قد سبق منّا في مبادئ الأصول في بيان الفرق بين المسألة الاصولية و بين القاعدة الفقهية، أنّ المسألة الاصولية هي كلّ قاعدة مهّدت لتحصيل الحجّة علي الحكم الكلي الشرعي. فالمسألة الاصولية تنتج الحجّة علي الحكم الشرعي دائما، إمّا بالمباشرة أو بالواسطة. فما من مسألة اصولية إلّا أنّ نتيجتها هي الحجة علي الحكم الشرعي، حتي مثل مسألة مقدمة الواجب، فانّ نتيجتها هي ثبوت الملازمة العقلية بين البعث إلي ذي المقدمة و بين البعث إلي مقدمته. و هذه الملازمة العقلية حجّة علي وجوب المقدمة عقلا، و بتبعه شرعا؛ نظرا إلي ما هو ثابت من الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

و لكن القاعدة الفقهية هي كبري كلية تتضمّن

حكما كلّيّا شرعيا منطبقا علي أحكام جزئية شرعية التي هي مصاديق ذلك الحكم الكلي، و عليه فالقاعدة الفقهية تنتج دائما حكما كليا شرعيا.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 8

و بناء علي هذا الأساس فالفرق بين المسألة الأصولية و بين القاعدة الفقهية أنّ نتيجة القاعدة الاصولية هي الحجة علي الحكم دائما، و لكن مفاد القاعدة الفقهية هو نفس الحكم، لا الحجّة عليه.

و الغرض من تمهيد هذه المقدمة هو التنبيه علي نكتة، و هي أنّ عادة الفقهاء المعاصرين جرت علي تدوين عدّة قواعد و البحث عنها بعنوان القواعد الفقهية. و لكن توجد بينها قواعد تكون نتيجتها حجّة علي الحكم الكلي الشرعي. و ذلك مثل قاعدتي اليد و السوق؛ حيث إنّا إذا بنينا علي أماريتهما تدخلان في القواعد الاصولية. و ذلك لأنّ مفاد قاعدة اليد إنما هو حجية اليد علي ملكية ما في اليد لصاحبها شرعا و جواز شرائها و بيعها، و مفاد قاعدة السوق هو أمارية سوق المسلمين علي تذكية ما يشتري فيه و علي طهارتها و جواز أكلها و الانتفاع بها. و عليه فنتيجة القاعدتين هي الحجة الشرعية علي الملكية و التذكية اللتين هما من الأحكام الكليّة الشرعية الوضعية.

و كلا منا أنّ مثل هذه القواعد- التي مفادها الأمارية و الحجية- ينبغي أن تدخل في القواعد الأصولية؛ نظرا إلي أنّها واجدة لملاك القاعدة الاصولية.

و إنّما ذكرناها في عداد القواعد الفقهية تبعا لما جرت عليه عادة الفقهاء، و إلي ما وقع بينهم من الخلاف في مفاد هذه القواعد، من كونه الحجية و الأمارية أو الحكم الوضعي نفسه، كالملكية و التذكية و الطهارة و نحوها.

علي أكبر السيفي المازندراني

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص:

9

قاعدة اختلال النظام

اشارة

1- منصّة هذه القاعدة في الفقه 2- مفاد هذه القاعدة 3- هي قاعدة فقهية لا اصولية 4- مدرك القاعدة 5- هل هي أمارة أو أصل أو غيرهما؟

6- موارد جريان القاعدة 7- التطبيقات الفقهية 8- حالها مع ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 11

منصّة هذه القاعدة في الفقه

هذه القاعدة من القواعد المهمة التي يتوقف عليها حكم كثير من الواجبات و المحرمات في أبواب العبادات و المعاملات. و إنّ لها دورا كبيرا في تشييد أساس فقه الشيعة، فلا يقاس بمثل القياس و الاستحسان كما قد يتوهم.

و هي رغم أهميتها لم يتعرض لها الفقهاء بعنوان قاعدة مستقلة في عداد ساير القواعد. و الوجه في ذلك لعلّه وضوح اعتبارها بلحاظ حكم العقل بمفادها و كونها مورد تسالم جميع الفقهاء. هذا مضافا إلي عدم جريان عادة الفقهاء علي تدوين القواعد الفقهية بمعناها المصطلح من سالف الزمان، و إنّما تصدّي لذلك جماعة من الفقهاء في الأزمنة المعاصرة فيما كان من القواعد أهم موضوعا و أعظم خطرا و أوسع نطاقا في نظرهم.

و هذا الملاك موجود في هذه القاعدة علي النحو الأتم؛ نظرا إلي ابتناء كثير من الأحكام الفقهية عليها. فينبغي البحث عنها.

مفاد هذه القاعدة

مفاد هذه القاعدة هو حرمة الاخلال في النظام و وجوب حفظه شرعا، كما ستعرف ذلك في خلال المباحث الآتية.

و لا يخفي أنّ ابتناء هذه القاعدة علي حكم العقل لا ينافي كون مفادها حكما شرعيا؛ لثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي البديهي و بين حكم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 12

الشرع. و إنما يكون حكم العقل دليل الحكم الشرعي الذي هو مفاد هذه القاعدة. فان العقل من أحد الأدلة الأربعة الرئيسية في عرض الكتاب و السنة و الاجماع، بمعني عدم توقف حجّيته علي واحد منها.

أما وجه كون مفاد هذه القاعدة حرمة الاخلال في النظام و وجوب حفظه شرعا فيتضح لك في بيان مدرك القاعدة. و ستعرف ذلك في مطاوي كلمات الفقهاء فان مقصودهم وجوب حفظ النظام و حرمة الاخلال به شرعا، لا عقلا، كسائر

القواعد و الكبريات المستدل بها في مختلف الفروع الفقهية؛ حيث استدلّوا بها علي فتاويهم في مختلف أبواب الفقه.

هي قاعدة فقهية لا اصولية

ثم إنّ هذه القاعدة من القواعد الفقهية، لا الاصولية، كما قد يتوهم، و ذلك لأنّ المسألة الأصولية- حسب ما اخترناه من المبني و بيّنا وجهه في كتابنا (بدائع البحوث)- هي القواعد التي مهّدت لتحصيل الحجة علي الحكم الكلّي الشرعي، بأن تكون نتيجتها حجّة علي الحكم الكلي الشرعي بخلاف القاعدة الفقهية، فانّها بنفسها حكم كلي شرعي ينطبق علي مصاديقه التي هي أحكام جزئية شرعية.

و هذه القاعدة لمّا كان مفادها حرمة الإخلال في النظام و وجوب حفظه شرعا، تكون من المسائل الفقهية؛ نظرا إلي كون نتيجة البحث عنها بنفسها حكما كليا شرعيا. و لا ينافي ذلك ابتناء هذه القاعدة علي حكم العقل؛ حيث إنّه دليل هذه القاعدة، لا نتيجتها.

و تبتني هذه القاعدة علي حكم العقل المستقل بقبح فعل ما يوجب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 13

اختلال نظام حياة نوع الانسان و تبدّد قوام معاشهم و تفرّق مجتمعهم، و بلزوم أيّ فعل يتوقف عليه حفظ هذا النظام.

و بعد استقلال العقل بذلك لا حاجة لإثبات حرمة ما يخلّ بالنظام و وجوب ما يحفظ به إلي دليل تعبدي خاص من الشارع، بل يحمل ما ورد من النصوص الدالة علي ذلك علي الارشاد إلي حكم العقل، كما أنه يقطع بعدم رضي الشارع بفعل ما يختل به نظام عيش المسلمين.

و لكن يشترط في جريان هذه القاعدة من إحراز توقف حفظ نظام نوع الناس و غالبهم علي فعل ما يستدل له بهذه القاعدة، و اختلاله بتركه أو بالعكس، و إلّا فما لم يحرز ذلك لا تجري هذه القاعدة؛ حيث لا يتحقق موضوع

حكم العقل.

مدرك القاعدة

[الأول العقل]

سبق أنّه بعد استقلال العقل بقبح فعل ما يخلّ بالنظام و لزوم فعل ما يتوقف عليه حفظ النظام، لا حاجة لإثبات مفاد هذه القاعدة و حجيتها إلي نصّ من جانب الشارع. و أنّ ما ورد من النصوص الدالّة علي ذلك محمول علي الارشاد إلي حكم العقل. و نكتفي بذكر بعض هذه النصوص تأييدا.

[الثاني النصوص]

منها: معتبرة فضل بن شاذان عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث طويل، قال:

«فان قال قائل: و لم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة، منها: أنّ الخلق لما وقفوا علي حدّ محدود و أمروا أن لا يتعدّوا من تلك الحدود؛ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيها أمينا يأخذهم بالوقف عند

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 14

ما أبيح لهم لو يمنعهم من التعدّي علي ما حظر عليهم؛ لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام. و منها: أنا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا، إلّا بقيّم و رئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لا بد لهم منه و لا قوام لهم إلّا به، فيقاتلون به عدوّهم و يقسّمون به فيئهم و يقيمون به جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم». «1»

فانّ قوله عليه السّلام: «لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره … »

إشارة إلي مفاد هذه القاعدة،

حيث يشير إلي منشأ لزوم الاختلال في نظام حياة عموم الناس و معاشهم. و كذا قوله عليه السّلام: «و لا قوام لهم إلّا به» أي لا يحفظ نظام نوعهم و لا تستقرّ أركان حياتهم و لا تصلح أمورهم إلّا بقيّم و رئيس.

و لا يخفي أنّ لزوم ذلك ثابت بحكم العقل، و من هنا قال عليه السّلام: «فلم يجز في حكمة الحكيم».

قال الصدوق- بعد نقل ما قال الفضل بتفصيله-: «حدّثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار رضي اللّه عنه. قال حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، قال قلت: للفضل بن شاذان لمّا سمعت منه هذه العلل أخبرني عن هذه العلل التي ذكرتها، عن الاستنباط و الاستخراج و هي من نتائج العقل أو هي مما سمعته و رويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه (تعالي) بما فرض و لا مراد رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله بما شرّع و سنّ و لا اعلّل ذلك من ذات نفسي بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السّلام مرّة بعد

______________________________

(1) علل الشرائع/ طبع مكتبة الداوري: ص 253 و عيون أخبار الرضا/ طبع منشورات الأعلمي: ج 2، ص 99.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 15

مرّة و الشي ء بعد الشي ء فجمعتها. فقلت: فاحدّث بها عنك عن الرضا عليه السّلام؟

قال: نعم». «1»

و أيضا قال الصدوق: «حدّثنا الحاكم أبو محمد جعفر بن نعيم بن شاذان النيسابوري رضي اللّه عنه عن عمّه أبي عبد اللّه بن محمد بن شاذان عن الفضل بن شاذان أنّه قال: سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السّلام، فجمعتها متفرّقة و ألّفتها». «2»

هذه

الرواية معتبرة لأنّ فضل بن شاذان لا كلام في وثاقته بل جلالته، كما صرّح بذلك النجاشي و الشيخ و غيرهما. و لكن قد يستبعد روايته عن الامام الرضا عليه السّلام: نظرا إلي رواية والده- و هو شاذان- عن الجواد، فكيف يروي ابنه الفضل عن الرضا عليه السّلام. و أجاب السيد الخوئي عن هذا الإشكال بأن والده روي أيضا عن الرضا عليه السّلام. هذا مع أن الصدوق أقدم من الكشي و الشيخ و أعرف منه بحال الفضل و غيره من أصحاب الأئمة و أحوالهم و طبقاتهم. و عليه فلا يضرّ عدم ذكر الفضل من أصحاب الرضا عليه السّلام في كلام الكشي و الشيخ بروايته عنه عليه السّلام من دون واسطة.

و أما عبد الواحد بن محمد بن عبدوس فهو من مشايخ الصدوق، و قد ترضّي عنه و ترحم عليه كرارا، بل ما من مورد ذكر اسمه في كتابيه العيون و العلل و غيرهما، إلّا ترضّي عنه أو ترحّم عليه و إنّ كثرة الترضي و الترحم من مثل الصدوق في حق شخص كاف في إثبات وثاقته، كما قلنا في كتابنا

______________________________

(1) علل الشرائع/ طبع مكتبة الداوري: ص 274- 275 و عيون أخبار الرضا/ طبع منشورات الأعلمي: ج 2، ص 119.

(2) عيون أخبار الرضا/ طبع منشورات الأعلمي: ج 2، ص 119.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 16

مقياس الرواة عند البحث عن أمارات الوثاقة. بل صرّح في العيون- بعد ذكر روايتين منه و من غيره- بأنّ روايته أصح من رواية غيره، مع عدم ورود أيّ قدح في عبد الواحد.

و أما علي بن محمد بن قتيبة فالأقوي اعتبار راوياته؛ إذ لم يرد فيه أيّ قدح. و قد اعتمد عليه

الكشي في رجاله كما شهد به النجاشي. و إنّ الكشي و ان يروي عن الضعفاء كثيرا بشهادة النجاشي إلّا أنّ اعتماده علي نقل شخص غير مجرّد الرواية عنه، و الفرق بينهما واضح.

و عليه فما قيل، من كون شهادة النجاشي باعتماد الكشي علي علي بن محمد لأجل استنباطه من مجرّد رواية الكشي عن القتيبي غير وجيه، بل الظاهر أنّه لأجل كثرة نقله عنه؛ نظرا إلي كشفها عن اعتماده علي نقله.

و أيضا قد شهد العلامة بصحة ما رواه الكشي عن القتيبي في مواضع عديدة. مثل ما قال في الخلاصة في ترجمة يونس بن عبد الرحمن. و أيضا ذكره في الخلاصة في قسم الموثقين. و ذكر في المختلف رواية في كفارة الجمع بالافطار علي الحرام عن القتيبي، ثم قال: في طريق هذه الرواية عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري و لا يحضرني الآن حاله، فان كان ثقة فالرواية صحيحة، يتعيّن العمل بها. و انت تراه أنّه جعل وثاقة القتيبي أمرا مسلّما مفروغا عنه. هذا كله مع عدم ورود أيّ قدح فيه، فالأقوي اعتبار رواياته. و عليه فهذه الرواية معتبرة بهذا الطريق. هذا مضافا إلي طريق آخر للصدوق إلي الفضل في سند هذه الرواية، كما نقلناها.

و من هذه النصوص: رواية حفص بن غياث، بل معتبرته عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث. فانه عليه السّلام بعد حكمه بأمارية اليد علي الملكية و جواز

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 17

الاستناد إليها في الشهادة علي مالكية ذي اليد لما في يده، قال:

«لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

وجه الدلالة أنّ قوله عليه السّلام: «لم يقم للمسلمين سوق» بمعني أنّه يختلّ نظام أسواق المسلمين و

معاملاتهم و مبادلاتهم. و أنّ حفظ نظام اقتصادهم يتوقّف علي أمارية اليد و حجيتها. و إنّ العقلاء يعتمدون علي ما به حفظ نظامهم الاقتصادي و قوام سوقهم، و يتكلون علي ما يتوقف عليه جريان معاملاتهم و مبادلاتهم. و إلّا لاختلّ نظام اقتصادهم و أسواقهم. و من الواضح أن ذلك ينجرّ إلي اختلال نظام النوع فيدخل فيما يستقل العقل بلزومه ليتوقف حفظ النظام عليه و اختلاله بتركه و تعطيله.

و لا يخفي أنّ أمارية اليد و إن تبتني علي بناء العقلاء، كما سيأتي بيان ذلك، إلّا أنّ لبنائهم علي حجية اليد جذر عقلي و هو حفظ النظام و لزوم اختلاله من عدم بنائهم علي ذلك.

و قد جرت سيرة المسلمين علي اعتبار اليد و حجيّتها بما أنّهم من العقلاء. و إنّ سيرتهم علي ذلك متأصّلة في حكم العقل بمنع اختلال النظام، و إلي ذلك أشار الامام عليه السّلام بقوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

و قد يتوهّم أنّ ابتناء حجية اليد علي حكم العقل- و لو بواسطة ابتناء بناء العقلاء عليه- ينافي كونها أمارة؛ نظرا إلي أنّ حكم العقل يوجب القطع بالواقع، و الأمارة لا توجبه.

و لكنه غير وجيه، و ذلك لأن حكم العقل بمنع اختلال النظام و وجوب حفظه، إنّما هو منشأ جريان سيرة العقلاء علي حجية اليد بلحاظ كون

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 215، ب 25 من أبواب كيفية الحكم، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 18

ترتيب آثار الحجة علي اليد من مصاديق حفظ النظام و كون عدم ترتيبها من مصاديق ما يختلّ به النظام. و ليس موضوع حكم العقل حجية اليد لكشفها عن الواقع، كحكمه بحجية العلم، بل

موضوع حكمه هو منع اختلال النظام و وجوب حفظه. و حيث إنّ العقلاء يرون معاملة الحجّة مع اليد من مصاديق ما يحفظ به النظام، و عدمها من مصاديق ما يختلّ به، جرت سيرتهم علي ذلك في أمورهم.

و عليه فدليل حجية اليد هو بناء العقلاء لا حكم العقل.

و أما سندا فقد ضعّف بوقوع القاسم بن يحيي في طريقي الكليني و الشيخ بلحاظ ما نقل عن ابن الغضائري في تضعيفه، و لكن الأقوي جواز الاعتماد علي رواياته؛ لكونه واقعا في أسناد كامل الزيارات و قد روي عنه مثل إبراهيم بن هاشم و أحمد بن محمد بن عيسي و محمد بن عيسي و البرقي. و مما يؤيّد وثاقته حكم الصدوق بصحة ما رواه القاسم بن يحيي في زيارة الحسين عليه السّلام، بل قال: إنّ هذه الزيارة من أصح الزيارات.

و أما ما نقل عن ابن الغضائري في تضعيفه من كتابه فهو غير ثابت؛ لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه. و أيضا روي الصدوق هذه الرواية باسناده عن سليمان بن داود. و قد ضعّف بوقوع القاسم بن محمد الاصفهاني في طريقه إليه لتضعيف النجاشي و ابن الغضائري إيّاه، بل نقل تضعيفه عن الكشي. و لكنّ المحقق الأردبيلي استظهر في جامع الرواة اتحاد القاسم هذا مع القاسم بن محمد الجوهري. و مع ذلك يشكل إثبات وثاقة الرجل لتعارض ما نقل من الجرح و التعديل في حقه علي فرض الاتحاد. و لكن يكفي اعتبار طريق الكليني و الشيخ في الحكم باعتبار هذه الرواية، هذا مضافا إلي عمل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 19

مشهور القدماء و المتأخرين بمضمونها، فعلي فرض ضعفها ينجبر بفتوي المشهور.

و منها: ما رواه في تحف العقول في

بيان المكاسب المحلّلة عن الصادق عليه السّلام في حديث:

«فكلّ مأمور به مما هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها … فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه». «1»

فان قوله: «و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره».

بيان لتوقف حفظ نظام نوع الناس علي ذلك و اختلاله بتركه و تعطيله.

و لا يخفي أنّ المقصود من الحليّة في المقام هو الإباحة بالمعني الأعم في مقابل الحرمة، كما يفهم ذلك بقرينة التقابل في الرواية و إلّا فالمكاسب المتوقف عليه حفظ النظام لا إشكال في وجوبها كفائيا كما تسالم عليه الفقهاء.

و لا ريب في ورود روايات اخر في مختلف أبواب الفقه مما يدلّ علي هذه القاعدة، يجدها المتتبع في تضاعيف النصوص، و لا سيما ما يرتبط منها بالمسائل التي ذكرناها هنا في مجاري القاعدة مما استند الفقهاء في الاستدلال علي المسألة إلي هذه القاعدة.

و لكن جميع ما يدل علي مفاد هذه القاعدة من النصوص يحمل علي الارشاد إلي حكم العقل، كما قلنا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 12، ص 54، ب 2 مما يكتسب به، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 20

هل هي أمارة أو أصل أو غيرهما؟

هذه القاعدة ليست من الأمارات و لا من الأصول، كما هو واضح، بل من الأحكام. و انما هو حكم العقل بمنع ما يختل به النظام و لزوم ما يحفظ به النظام. و عنوان هذه القاعدة في الحقيقة هو موضوع حكم العقل، و هو اختلال النظام و حفظه.

و مفادها هو حكم العقل و بتبعه حكم الشرع

بحرمة الاختلال و وجوب حفظه؛ نظرا إلي الملازمة بين حكم العقل و بين حكم الشرع فكيف يكون مفاد قاعدة اليد حجّية اليد و أماريتها و عنوانها «اليد» التي هي موضوع الحكم الوضعي الذي هو الحجية؟ فكذلك في المقام.

فهذه القاعدة عبارة عن كبري كلية تفيد وجوب كل ما يدفع هذا المحذور- أي اختلال النظام- و حرمة ما يوجبه.

و قد يعبّر عن هذه القاعدة بقاعدة حفظ النظام. بلحاظ أنّها تفيد وجوب كل ما يحفظ به النظام و حرمة تركه. و تكون حينئذ من الأحكام؛ لأنّ وجوب حفظ النظام و حرمة الاختلال فيه حكم من العقل و الشرع.

موارد جريان القاعدة

قبل التعرّض إلي تطبيقات هذه القاعدة، ينبغي التنبيه علي نكتة مهمّة في مجراها. و هي أنّ هذه القاعدة إنّما هي محكّمة فيما يتوقف عليه حفظ نظام نوع الناس و تنقطع ربقة حياتهم الاجتماعي بتركه و تعطيله و لا تجري في النظامات الجزئية التي لا يوجب اختلالها اختلالا في نظام النوع، كالنظام الثقافي في مدرسة أو جامعة أو حوزة علمية، أو النظام الإداري في دائرة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 21

من الدوائر، و نحو ذلك من النظامات الجزئية.

و بذلك يظهر عدم وجاهة استناد بعض إلي هذه القاعدة في الافتاء بحرمة غش الطلاب في الامتحانات. و إليك نصّ استفتائه و جوابه.

س: هل يجوز الغش في الامتحانات إذا كان بعض المدرسين يساعدون الطلاب في الغش في الامتحانات المدرسية؟

ج: لا يجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز مخالفة النظام في شي ء من الوظائف. فان النظام يقول بأنّ وظيفتك الدراسة و عدم الغش. «1»

هذا، لو كان مراده الاستناد إلي هذه القاعدة.

و أما إذا كان مراده من النظام هو القانون الثقافي فلا دليل علي حرمة

مخالفته إلّا إذا كان من قوانين الحكومة الاسلامية بتنفيذ الفقيه الحاكم؛ نظرا إلي رجوع الغش في الامتحان حينئذ إلي مخالفة حكم الحاكم، و هو يبعد، إلّا إذا كان له حكم ولائي في خصوص المورد.

و لو كان مقصوده مخالفة الوعد و نقض العهد، نظرا إلي التزام الطلاب بالنظام الدراسي و تعاهدهم برعاية قوانين المدرسة لدي الورود، ففيه أنّه عهد ابتدائي غير واجب الوفاء.

التطبيقات الفقهية

و قد استند الفقهاء إلي هذه القاعدة في مختلف الابواب و الفروع الفقهية.

منها: ثبوت الولاية للفقيه في عصر الغيبة، كما علل ذلك بحفظ النظام، المحقق السيد محمّد آل بحر العلوم في بلغة الفقيه «2»، بل علّل المحقق ميرزا

______________________________

(1) منية السائل/ من استفتاءات السيد الخوئي قدّس سرّه: ص 218.

(2) بلغة الفقيه: ج 3، ص 390.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 22

الآشتياني «1» ثبوت ولاية النبي و الوصي علي الحكم، بلزوم اختلال النظام من عدمه.

و قد علّل السيد الامام الخميني قدّس سرّه ضرورة الحكومة الاسلامية بقيادة الفقيه العادل و نفوذ حكمه بوجوب حفظ النظام و حرمة الاختلال فيه؛ حيث قال: «إن الأحكام الالهية سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسات لم تنسخ بل تبقي إلي يوم القيامة و نفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة و ولاية تضمن حفظ سيادة القانون الالهي و تتكفّل لإجرائه.

و لا يمكن إجراء أحكام اللّه إلّا بها، لئلّا يلزم الهرج و المرج، مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأكيدة و اختلال أمور المسلمين من الأمور المغضوبة.

و لا يقوم ذا و لا يسدّ عن هذا إلّا بوال و حكومة». «2»

و في موضع آخر جعل حفظ النظام من أوضح الأمور الحسبية التي لا يمكن القيام بها إلّا بتشكيل الحكومة الاسلامية؛

حيث قال: «و لا يخفي أنّ حفظ النظام و سد ثغور المسلمين و حفظ شبّانهم من الانحراف عن الإسلام و منع التبليغات المضادّة للإسلام و نحوها من أوضح الحسبيات و لا يمكن الوصول إليها إلّا بتشكيل حكومة عادلة اسلامية». «3»

و قد علّل المحقق الأردبيلي سقوط اشتراط الاذن من الامام عليه السّلام في ثبوت الولاية علي القضاء للفقيه في عصر الغيبة بحفظ النظام، و أنه لو لا القضاء بين الناس لاختل نظام نوعهم». «4»

______________________________

(1) كتاب القضاء للآشتياني: ص 17.

(2) كتاب البيع: ج 2، ص 461.

(3) كتاب البيع: ج 2، ص 497.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: ج 12، ص 28.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 23

و لا يخفي ما فيه من جهة أنّ حفظ النظام إنما يتوقف علي أصل القيام بالقضاء بين الناس، و لا يوجب ذلك اعتبار شروط و قيود في من يتولّي القضاء و الحكومة، بل إنّما يستفاد ذلك من وجود اخري، منها النصوص، كمقبولة حنظلة و معتبرة أبي خديجة و ما ورد عن العسكري عليه السّلام في التفسير المنسوب إليه و غير ذلك من النصوص الدالة علي صدور الاذن العام منهم للفقيه الجامع لشرائط الفتوي في تولّي منصب القضاء و الحكومة.

و قد بحثنا عن ذلك مفصّلا في كتاب ولاية الفقيه من دليل تحرير الوسيلة.

نعم إثبات وجوب تولّي منصب القضاء و تأسيس الحكومة علي من يتمكن من ذلك لا يتوقف علي أمر الشارع أو إذنه، بل إنّما يتوقف علي استقلال العقل بلزوم الاتيان بما يتوقف عليه حفظ نظام النوع و ترك ما فيه اختلال النظام.

و لكن لا ينافي ذلك عدم مشروعية تولي ذلك لمن لم يأذن الشارع له، و لو بالاذن العام.

و أما حكم العقل انما هو المحكم ما لم يخطّئه الشارع. فما منعه الشارع يكون تخطئة لحكم العقل، كما في المقام بالنسبة إلي الفاقد لما اعتبره الشارع من القيود و الشروط في متولي الحكم و القضاء. نعم لو توقف حفظ النظام علي تولّي خصوص فاقد الشرائط للقضاء و الحكومة يكون مأذونا من قبل الشارع للقطع بعدم رضي الشارع باختلال النظام ما لم ينجرّ ذلك إلي اندراس آثار الشريعة و محو شعائر الدين. و قد علّل السيد المحقق الخوئي «1» مشروعية القضاء بتوقف حفظ النظام عليه، و لزوم الاختلال فيه لو لا مشروعية القضاء. و بعدم الفرق في ذلك بين زماني الحضور و الغيبة.

______________________________

(1) التنقيح: ج 1، ص 389.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 24

منها: حجية شهادة من ثبتت عدالته في الظاهر، و عدم اعتبار ثبوت عدالة الشاهد واقعا، كما علّل صاحب الجواهر «1» ذلك بلزوم اختلال النظام من عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة و ردّ من ثبتت عدالته ظاهرا.

فانه قدّس سرّه بعد ما ردّ اعتبار العدالة الواقعية في قبول شهادة الشاهد و حكم بالاكتفاء بظاهر العدالة في قبولها علّل ذلك بقوله: «بل قد يدّعي اختلال النظام بذلك، فإنّ كثيرا من حقوق الناس من أموال و فروج و دماء تضيع بذلك. فكم من دم يهدر و كم من فرج يغصب و كم من ولد يؤخذ». «2»

و قد علّل السيد الخوئي «3» عدم سراية حجية البينة إلي غير باب المرافعات بلزوم اختلال النظام؛ بأنّا لو قلنا بعدم حجية البينة في خصوص باب المرافعات و الخصومات للزم اختلال النظام. و أمّا ساير الأبواب فلا يلزم هذا المحذور من عدم القول بحجية البينة فيها.

و منها:

أمارية اليد و سوق المسلمين. فقد علّل الفقهاء أماريتها بلزوم اختلال النظام من نفي أماريتها، كما صرّح به السيد محمد في بلغة الفقيه. «4»

و منها: وجوب المكاسب الكفائية؛ حيث علّل وجوبها في كلمات الفقهاء يتوقف حفظ النظام عليها و لزوم الاختلال فيه من تركها و تعطيلها، كما صرّح به السيد الامام الخميني قدّس سرّه «5» و المحقق الميرزا الآشتياني. «6»

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 13، ص 286.

(2) جواهر الكلام: ج 13، ص 286.

(3) التنقيح الاجتهاد و التقليد: ص 208.

(4) بلغة الفقيه: ج 3، ص 308 و 318.

(5) المكاسب المحرمة: ج 1، ص 4.

(6) كتاب القضاء للآشتياني: ص 35.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 25

و قد علّل السيد المحقق الخوئي وجوب المكاسب الكفائية بحفظ النظام، و قال: إنّ ذلك لا يوجب كونها مجانية لابتناء حفظ النظام علي كونها بالاجرة. «1»

و علي ذلك فرّع الفقهاء أخذ الاجرة علي الواجبات الكفائية، بل العينية التي يكون وجوبها لحفظ النظام، كما عن السيد بحر العلوم في المصابيح؛ حيث نقل عنه السيد محمد آل بحر العلوم في بلغة الفقيه. «2»

و قد قوي السيد الامام الراحل قدّس سرّه صحة الاستيجار في الواجبات الكفائية و جواز أخذ الأجرة عليها، إلّا إذا ثبت في كفائي اعتبار الملكية للّه تعالي. و جعل جواز أخذ الأجرة علي الواجبات النظامية- التي يتوقف عليها حفظ النظام- مقتضي القاعدة.

و منها: عدم قبول دعوي الاعسار من الغريم بمجرد دعوي ذلك من دون فحص. و علّل ذلك بلزوم اختلال النظام؛ نظرا إلي عدم امكان مطالبة كثير من الديون حينئذ، كما صرّح بهذا التعليل المحقق الآشتياني. «3»

و منها: ابتناء تشريع القسمة و نفوذها شرعا علي حفظ النظام؛ نظرا إلي أنه

قد لا يراعي بعض الشركاء أو جميعهم ضوابط الشركة و أحكامها أو يستبدّ بالتصرف، فلا مناص للحاكم من الإقدام بالقسمة، و إلّا لاختلّ النظام.

و قد صرّح بهذا التعليل المحقق الآشتياني. «4»

و منها: عدم مشروعية الاحتياط في جميع التكاليف و ترك الاجتهاد

______________________________

(1) مصباح الفقاهة: ج 1، ص 27.

(2) بلغة الفقيه: ج 2، ص 12.

(3) كتاب القضاء: ص 99.

(4) كتاب القضاء: ص 291.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 26

و التكليف. فقد علّلوا ذلك بلزوم اختلال النظام من تكليف الناس بالاحتياط في جميع تكاليفهم. و إنّ العقل يستقلّ معه بالقبح و المنع، كما صرّح بذلك السيد الخوئي. «1»

حالها مع ساير الأدلة

لا ريب في تقدّم هذه القاعدة علي ساير الأمارات، فضلا عن الاصول.

و الوجه فيه أنّها توجب القطع بحكم الشارع حيث يحكم العقل بمفادها، و هو يوجب القطع بحكم الشارع ما لم يخطّئه بنص من الكتاب أو السنة، كما هو كذلك في المقام. و إنّ القطع حجة ذاتية و مع حصوله لا تصل النوبة إلي ساير الحجج و الأمارات.

اللهم إلّا أن يكون الاختلال في بعض شئون المجتمع، مما يكون فيه مصلحة الإسلام و المسلمين و حفظ بيضة الإسلام أو ما أخذ في موضوعه اختلال النظام، ذلك كالدفاع عن بيضة الإسلام و الجهاد في سبيل اللّه، فالمحكم في مثل هذه الموارد هو الحكم الأوّلي الثابت من الشرع أو حكم الفقيه الجامع، و لكن لا بد من وصول الاختلال إلي حد يوجب الاختلال في نظام النوع الموجب للاختلال في الحياة و حفظ النواميس و أصل المعاش، كما أشرنا إليه، و إلّا فالاختلال في النظامات الجزئية كالأنظمة الثقافية أو الادارية في بعض المدارس و المؤسسات و الادارات، خارج عن نطاق هذه

القاعدة لعدم دخوله في موضوع حكم العقل.

______________________________

(1) التنقيح/ كتاب الاجتهاد و التقليد: ص 65 و ص 175 و 241.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 27

قاعدة أصالة الإباحة و الحلّية

اشارة

1- مفاد القاعدة 2- مدرك القاعدة 3- هل هي أمارة أو أصل 4- حالها مع معارضة ساير الأدلة 5- مجري القاعدة 6- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 29

مفاد القاعدة

هذه القاعدة تعيّن الوظيفة العملية للمكلّف حينما شك في حلية التصرف في شي ء بأنحاء التصرفات، من الأكل و الشرب و اللبس و البيع و الشراء، و غير ذلك من وجوه التصرفات، بلا فرق بين الناقلة منها و بين غيرها.

و لا اختصاص لهذه القاعدة بباب خاص، بل تجري في مختلف أبواب الفقه من العبادات و المعاملات، كما ستعرف في التطبيقات الفقهية.

نعم لا تجري فيما لو شك في نقل المال لأجل الشك في صحة المعاملة لاحتمال فقد شرط أو وجود مانع.

و ذلك لأنّ المال بعد ما احرز كونه للمسلم و شكّ في نقله إلي الغير بسبب ناقل للشك في تحقق السبب، يجري الأصل السببي الحاكم و يقدّم علي الأصل المسبّبي؛ حيث إنّه مع جريان الأصل السببي الحاكم لا تصل النوبة إلي الأصل المسبّبي، كما أشار إليه المحقق العراقي بقوله: «إنّ من شرائط كلّية الاصول عدم وجود أصل حاكم عليها، بل كون ذلك من الشرائط أيضا مسامحة في التعبير؛ إذ مع وجود الحاكم لا يبقي مورد لجريانها». «1»

و في المقام يكون الشك في حلية التصرف في مال الغير و حرمتها

______________________________

(1) مقالات الاصول: ج 2، ص 202.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 30

مسببا عن الشك في تحقق سبب النقل الشرعي. و حينئذ يجري أصالة عدم تحقق السبب الناقل. و لا يبقي بعده شك في حرمة التصرف في مال الغير، حتي تصل النوبة إلي جريان أصالة الحلية.

و ذلك كما لو شك في صحة معاملة

لأجل الشك في تحقق الربا بالزيادة.

فان هناك مقتضي القاعدة- بعد عدم جواز التمسك بالعام و الخاص في الشبهات المصداقية- هو الرجوع إلي أصالة عدم تحقق السبب الناقل و عدم ترتب آثار العقد الصحيح، كما قال في الجواهر: «فمع فرض الشك يتجه الفساد لأصالة عدم ترتب الأثر و عدم النقل و الانتقال». «1»

و لا يجري حينئذ أصالة الحل، كما قوّي جريانها صاحب العروة بقوله:

«مع أنّ لنا أن نتمسك بأصالة الحلّ بناء علي جريانها في الحكم الوضعي كما هو الأقوي؛ فانّ المراد من الحل عدم المنع تكليفا و وضعا، و لذا يجري حديث الرفع و نحوه في نفي الجزئية و الشرطية و المانعية في الشبهة الحكمية، و في نفي المانعية في الشبهة الموضوعية». «2» و ذلك لأنّ أصالة الحلية غير جارية في مال الغير، كما قال في الجواهر.

ثم إنّ هاهنا نكتة في تعيين مفاد هذه القاعدة ينبغي الإشارة إليها.

و هي أنّ إنّ الشك في حلية شي ء تارة: يكون في حكم شي ء واحد؛ بأن شكّ في حكمه لشبهة مفهومية أو مصداقية؛ لا لأجل تردّده بين الحرام و بين غيره. و اخري: لأجل تردّده بين شيئين يعلم حلية أحدهما: و حرمة الآخر فلم يعلم الحرام منهما بعينه، و هذا في موارد العلم الإجمالي.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 23، ص 340.

(2) العروة الوثقي: ج 2، ص 21، م 15.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 31

و محل الكلام- الذي هو مفاد القاعدة- القسم الأوّل من الشك، لا الثاني المبحوث عنه في العلم الإجمالي، و إن يشمله إطلاق دليل هذه القاعدة أيضا.

ثم إنّ في القسم الأوّل تارة: يكون ما شكّ في حليته من أحد قسمي أو أقسام الطبيعي المنقسم إلي

الحرام و الحلال بحسب أصنافه أو أفراده، كالبيع الربوي و غير الربوي. فيشك في حلية مال لأجل انتقاله ببيع لم يعلم أنّه من قبيل البيع الربوي أو غيره. أو شك في حلية سمك لا يدري أنّه مما لا فلس له من الأسماك حتي يحرم أو من قبيل ذوي الفلوس حتي يحلّ.

و أخري: لا يكون الشك في حلية الشي ء بلحاظ ذلك. بل لأجل الشك في حكم نفسه. و ذلك إما لشبهة مفهومية ناشئة من اجمال الدليل، أو لشبهة موضوعية ناشئة من الاشتباه في مصداقه الخارجي.

و التحقيق دخول كلا القسمين من مشكوك الحلية في مفاد هذه القاعدة، لما اشير إليه في قوله عليه السّلام:

«كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتي تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه».

و لا يخفي أنّه إنّما يدخل في نطاق هذه القاعدة ما كانت الأدلة الاجتهادية قاصرة عن إثبات حكمه. و ذلك إمّا لقصورها دلالة في الشبهات المفهومية، أو لعدم تكفّل الخطاب ببيان موضوعه في الشبهات الموضوعية.

و أما القسم الثاني ففي الشبهة المحصورة يجب الاجتناب عن الجميع؛ تحصيلا للموافقة القطعية، مع إمكانه و عدم محذور العسر و الحرج فيه. فان العلم الإجمالي يكون حينئذ منجّزا، بخلاف الشبهة غير المحصورة. و ذلك لأنّ عمومات الأمر بالاجتناب عن النجس كما تشمل الفرد المتشخص من

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 32

النجس، أو الحرام، فكذلك تشمل معلوم الحرمة و النجاسة في الشبهات المحصورة، فتدخل في عمومات هذه القاعدة.

كما أشار إليه صاحب الحدائق بقوله: «فانّ قوله تعالي: حرمت عليكم الميتة … «1» و حرمت عليكم امهاتكم «2» شامل لما لو كان ذلك المحرّم متعينا متشخصا أو مشتبها بأفراد مخصوصة متعينة. فانه كما يقطع

بوجود النجس و الحرام مع التشخص، يقطع أيضا بوجوده في صورة الاشتباه في الأفراد المعينة فتشمله الأوامر المذكورة، غاية الأمر إنّه لما لم يمكن الوصول إلي الاجتناب عن ذلك النجس أو المحرم إلّا بالاجتناب عن الجميع، وجب اجتناب الجميع من باب أنّ ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب، و نظيره في الأحكام غير عزيز. فان من فاتته صلاة فريضة و اشتبهت بباقي الخمس وجب عليه الاتيان بالجميع نصا و فتوي بالتقريب المذكور.

و أمّا لو لم يكن محصورا كالموجود بأيدي الناس في الأسواق، فانه لا يقطع بوجود المحرم و لا النجس في ما يراد استعماله منه، و إن علم وجوده في الواقع و نفس الأمر. و من هنا حكم الشارع بحلّ ما في أيدي المسلمين و أسواقهم و طهارته و جواز شرائه، و إن علم وجود الحرام و النجس في أيدي بعض الناس الغير المعلومين. و هذا هو الذي وردت فيه صحيحة زرارة المذكورة في كلامه و نحوها. و ورد فيه: أنّ كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه «3» و ورد: كل شي ء نظيف حتي تعلم أنّه

______________________________

(1) المائدة: 4.

(2) النساء: 23.

(3) وسائل الشيعة: ج 12، ص 59، باب 4 من ابواب ما يكتسب به ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 33

قذر «1» فهذه الأخبار إنما وردت في غير المحصور دون المحصور، بمعني أنّ كل شي ء له أفراد بعضها طاهر و بعضها نجس أو بعضها حلال و بعضها حرام، فانّ الحكم فيها الطهارة و الحلية حتي يعلم كونه من الأفراد المحرّمة أو النجسة. و من هنا دخلت الشبهة علي جملة من أفاضل متأخري المتأخرين؛

حيث أجروا هذه الأخبار في قسم المحصور. و منهم السيد المذكور و نحوه ممن حذا حذوه في مسألة الطهارة و النجاسة، و المحدث الكاشاني و الفاضل الخراساني في مسألة اختلاط الحلال بالحرام، فحكموا بحل الجميع في المحصور، و هذا غلط نشأ من عدم التأمل في الأخبار». «2»

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بامور.

الأوّل: الاتفاق و التسالم؛

حيث إنّ الفقهاء قد اتفقوا علي حلية ما شك في حرمته إذا لم يكن مسبوقا بالعلم بالحرمة و لا من موارد الاحتياط.

و أما دعوي الاجماع في المقام بمعناه المصطلح الكاشف عن رأي المعصوم تعبّدا، غير وجيهة بعد استناد الأصحاب لهذه القاعدة بنصوص الكتاب و السنة و حكم العقل.

الثاني: حكم العقل

بجواز ارتكاب ما لم يحكم بقبحه، و لم يثبت من الشارع منعه و تحريمه.

و يعبّر عنه بأصالة البراءة عن الحرمة ما لم تثبت بدليل، كما يعبّر عنه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1054، ب 37 من النجاسات ح 4.

(2) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 279- 280.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 34

باستصحاب حال العقل، كما يستفاد ذلك من كلام الشهيد الأوّل. فانّه في تنقيح الأدلة الأربعة، بعد ما جعل حكم العقل رابع الأدلّة و قسمه إلي المستقلات العقلية و إلي غير المستقلات، قال في بيان القسم الثاني: «الثاني:

التمسك بأصل البراءة عند عدم دليل، و هو عام الورود في هذا الباب …

و يسمّي استصحاب حال العقل. و قد نبّه عليه في الحديث بقولهم عليهم السّلام: كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه». «1»

الثالث: عمومات الكتاب

، كقوله تعالي: «احل لكم الطيبات» «2»، كما يستفاد الاستدلال به من كلام الشيخ الأعظم. «3»

و منها قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي الْأَرْضِ حَلٰالًا طَيِّباً». «4»

و قوله: «فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اللّٰهُ حَلٰالًا طَيِّباً». «5»

و لكن هاتان الآيتان لا تدلّان علي مفاد هذه القاعدة؛ حيث وصف «ما في الأرض» في الآية الأولي و «ما رزقكم اللّه» في الثانية بالحلال الطيب، فلا نظر لهما إلي ما لم يعلم حليته.

و منها: قوله تعالي: «خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً … ». «6»

و منها: قوله تعالي: «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً … ». «7»

______________________________

(1) الذكري: ص 5.

(2) المائدة: 4 و 5.

(3) الفرائد: ج 3، ص 278.

(4) البقرة: 168.

(5) النحل: 114.

(6) البقرة: 29.

(7) الانعام: 145.

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 35

و قد استدل بهذه الآية الشهيد الثاني «1» بتقريب أنّ الأعيان مخلوقة لمنافع العباد. فايّ شي ء لم يثبت فيه منع من العقل أو الشرع يكون حلالا.

و عليه فما دام لم يثبت تخصيص عموم هاتين الآيتين أو تقييد إطلاقهما، يكون مقتضي القاعدة الأولية الأخذ بعمومهما.

و هذه الآيات لمّا لم يؤخذ الشك في موضوع الحكم المستفاد منها، تصلح للدليلية بنطاقها الواسع لإثبات حلية أكل كل ما لم يثبت حرمته بدليل، بل حلية مطلق التصرفات ما لم يثبت المنع، كما تدل عليه الآية الأخيرة.

و عليه تفيد هذه الآيات حكما أوليا ثابتا بالدليل الاجتهادي اللفظي، لا بالأصل العملي؛ حيث لم يفرض في موضوعه الشك.

الرابع: عمومات السنة و مطلقاتها

، و هي نصوص متواترة.

فمن هذه النصوص ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر بسنده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«كلّ شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتي تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه». «2»

استدل بهذه الصحيحة أكثر الفقهاء الفحول من القدماء و المتأخرين علي هذه القاعدة، كما سيأتي كلام بعضهم.

و قد روي في الوسائل روايات اخري معتبرة دالة علي هذا المضمون. «3»

و منها: قول الصادق عليه السّلام: «كل شي ء مطلق حتي يرد فيه نهي». «4» و هذا من

______________________________

(1) المسالك: ج 12، ص 8.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 59، ب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 1، السرائر/ طبع جماعة المدرسين: ج 3، ص 595.

(3) وسائل الشيعة: ج 17، ص 90، ب 61، من الأطعمة المباحة.

(4) وسائل الشيعة: ج 4، ص 917، ب 19 من أبواب القنوت، ح 3 و الفقيه: ج 1، ص 208، ح 937.

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 36

جوازم مرسلات الصدوق؛ حيث قال: و قال الصادق عليه السّلام.

و منها: صحيحة ضريس قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين و الروم أ نأكله؟

فقال عليه السّلام: ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكل و ما لم تعلم فكله حتي تعلم أنّه حرام». «1»

و منها: موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سمعته يقول: كل شي ء هو لك حلال حتي تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، و المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك و هي اختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها علي هذا حتي يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة». «2»

و منها: رواية عبد اللّه بن سليمان، قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام ما تقول: في الجبن؟ قال عليه السّلام: أو لم ترني آكله؟ قلت: بلي و لكني احبّ أن أسمعه منك. فقال عليه السّلام: سأخبرك عن الجبن و غيره، كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه». «3»

و منها: رواية أبي الجارود المروية في كتاب المحاسن: قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأي أنّه يجعل فيه الميتة.

فقال عليه السّلام: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، و إن لم تعلم فاشتر و بع و كل … ». «4»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16، ص 403، ب 64 من كتاب الأطعمة و الأشربة، ح 1.

(2)

وسائل الشيعة: ج 12، ص 60، ب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4.

(3) وسائل الشيعة: ج 17، ص 90، ب 61، من الأطعمة المباحة ح 1.

(4) وسائل الشيعة: ج 17، ص 91، ب 61، من الأطعمة المباحة ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 37

هل هي أمارة أو أصل؟

لا ريب في كون هذه القاعدة من الاصول؛ نظرا إلي أخذ الشك في موضوعها. و عليه فما دام دلّ علي الحكم دليل لفظي لا يجوز الرجوع إلي هذه القاعدة. و ذلك لورود الأمارات علي الاصول؛ حيث إنّه لا يبقي جهل و لا شك بعد دلالة الدليل الاجتهادي علي الحكم. فان الشارع جعل مؤدّاه منزلة العلم بالواقع تعبّدا. و في الحقيقة لا يتحقق موضوع للأصل حينئذ عند قيام الدليل.

حالها مع معارضة ساير الأدلة

هذه القاعدة تعارض ساير الأدلّة في موارد عديدة.

منها: ما لو اشتبه الماء المغصوب بالماء المباح، كما صرّح به الفاضل الهندي بقوله: «و لو اشتبه الماء المباح بالمغصوب وجب اجتنابهما؛ لوجوب الاجتناب عن المغصوب المتوقف عليه. و لا يعارضه عموم نحو قولهم عليهم السّلام كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه، و لا أنّ الواجب التطهّر بما لم يعلم غصبيته. و يتحقق بالتطهر بأحدهما. فانّ تطهر بهما فالوجه البطلان؛ للنهي المفسد للعبادة. و يحتمل الصحة؛ لفعله بالمباح قطعا». «1»

منها: ما لو اشتبه الذكي بغير الذكي، كما قال المحقق المذكور: «و لو امتزج الذكي بالميت اجتنبا من باب المقدمة، كما هو القاعدة المطردة. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن شاتين إحداهما زكية و لم تعرف الذكية منهما.

______________________________

(1) كشف اللثام: ج 1، ص 44.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 38

قال عليه السّلام: يرمي بهما جميعا، لكن في صحيح ابن سنان عن الصادق عليه السّلام: كل ما فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام منه بعينه، فكأنّه في غير المحصور، أو بمعني احتمال الأمرين». «1» و في مثل هذه الموارد لا إشكال في تقديم النصوص الخاصة

الواردة في مواردها علي إطلاق هذه القاعدة، كما هو المقرّر في علم الاصول من تقييد المطلق بالمقيد.

كما أشار إلي ذلك في خصوص المقام في الحدائق بقوله: «كل خطاب شرعي فهو باق علي إطلاقه و عمومه حتي يرد فيه نهي في بعض أفراده يخرجه عن ذلك الاطلاق. مثل قولهم: «كل شي ء طاهر حتي تعلم أنّه قذر» و «كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه» و نحو ذلك من القواعد الكلية». «2»

مجري القاعدة

لا إشكال في جريان هذه القاعدة في الشبهات التحريمية الموضوعية، كما صرّح بذلك الشيخ الأعظم؛ حيث قال قدّس سرّه: «المسألة الرابعة: دوران الحكم بين الحرمة و غير الوجوب، مع كون الشك في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجية. كما إذا شك في حرمة شرب مائع و إباحته للتردّد في أنّه خلّ أو خمر، و في حرمة لحم للتردد بين كونه من الشاة أو من الأرنب. و الظاهر: عدم الخلاف في أنّ مقتضي الأصل فيه الإباحة؛ للأخبار الكثيرة في ذلك، مثل قوله عليه السّلام: كل شي ء لك حلال حتي تعلم أنّه

______________________________

(1) المصدر: ج 2، ص 265.

(2) الحدائق الناضرة: ج 1، ص 50.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 39

حرام. و كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال». «1»

و لكنّك تعرف عدم اختصاصها بذلك، بل يجري في الشبهات التحريمية الحكمية أيضا. كما صرّح بذلك المحقق النراقي «2» في الصيد الذي قتله المعراض من غير خرق فيما إذا لم يكن للصياد نبل غيره؛ حيث وردت فيه طائفتان من النصوص، دلّت إحداهما علي جواز أكل مطلق ما خرقه المعراض و إن كان للصياد نبل آخر غيره. و

دلّت ثانيتهما: علي عدم جواز أكل مطلق ما قتله المعراض إذا كان له نبل آخر سواء خرقه المعراض أو لم يخرقه. فيقع التعارض بين الطائفتين في ما قتله المعراض بالخرق مع وجود نبل آخر غيره؛ حيث دلّت الأولي علي جواز أكله و الثانية علي عدم جواز أكله. فتتساقطان؛ لعدم مرجح في البين.

و حينئذ قد حكم المحقق النراقي قدّس سرّه بالرجوع إلي أصالة الحلية بعد ذكر اسم اللّه؛ حيث إنّه- بعد الاشارة إلي طائفتين من نصوص المقام- قال: «و أما إذا وجد غيره، و إن حصل الخدش في الحكم للصحيحين الأخيرين المتعارضين- لما مرّ- بالعموم من وجه، إلّا أنّ تعارضهما موجب للرجوع إلي أصالة الحلية بعد ذكر اسم اللّه عليه». «3»

و نظير ذلك ما سيأتي من المحقق المزبور في السمك الذي مات في الماء بعد وقوعه في آلة الصيد.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 119.

(2) مستند الشيعة: ج 15، ص 313.

(3) مستند الشيعة: ج 15، ص 313.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 40

التطبيقات الفقهية

استدل الفقهاء بهذه القاعدة في مختلف أبواب الفقه من العبادات و المعاملات في موارد عديدة لا تحصي.

فمن هذه الموارد ما إذا نصب الصياد في الحظيرة الشبكة فوقعت فيها الأسماك، و اشتبه ما مات منها في الماء بما مات في خارجه.

قال ابن فهد الحلي: «إذا نصب في الحظيرة (و هو الماء المحصور بمسناة أو ما أشبهها، أو البركة) شبكة، و خرج فيها سمك، فان كان حيّا حلّ قطعا. و إن كان ميّتا حرم؛ لأنه مات فيما فيه حياته. و إن اختلط الحي فيها بالميت، هل يجب اجتناب الجميع أو يحل الجميع؟، قيل فيه قولان. الحلّ لخمسة أوجه» «1»

ثم جعل قدّس سرّه

الوجه الخامس رواية عبد اللّه بن سنان السابقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«كل شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال أبدا حتي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». «2»

و منها: ما لو اشتبه المذكّي بغير المذكّي.

قال الفقيه السبزواري: «المشهور بين المتأخرين أنّه إذا اختلف و لم يعلم وجب الامتناع من الجميع حتي يعلم الذكي بعينه. و مستند ذلك عندهم قاعدة معروفة لديهم، و هي أنّ الحرام يغلب الحلال في المشتبه و بعض الروايات

______________________________

(1) المهذّب البارع: ج 4، ص 96.

(2) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 41

العامية و بعض الاعتبارات العقلية و في الكل نظر. و قول الصادق عليه السّلام في صحيحة عبد اللّه بن سنان: كل شي ء فيه حرام و حلال فهو حلال حتي تعرف الحرام منه بعينه فتدعه، يدل علي الحل». «1»

و منها: ما لو مات السمك الواقع في الشبكة أو أيّة آلة أخري للصيد في الماء. فوقع الخلاف في حليته فعن جماعة كالعماني و الكفاية و الأردبيلي الحلية. و عن جماعة كالشيخ و ابن حمزة و الحلّي و أكثر المتأخرين الحرمة.

و يدل علي الحرمة ما ورد من التعليل بقوله عليه السّلام: «لا تأكله؛ لأنه مات في الذي فيه حياته». «2» و يدل علي الحلية عمومات حلية ما مات من الأسماك في الشبكة و الحظيرة. و في هذه الطائفة أيضا عللت الحلية بقوله عليه السّلام: «لا بأس إنما جعلت تلك الحظيرة ليصاد بها»، كما في صحيح الحلبي. «3»

فحكم المحقق النراقي عند تعارض الطائفتين بالرجوع إلي أصالة الحلية؛ حيث قال: «و لو قطع النظر عن جميع ذلك فيرجع إلي أصالة الحلية». «4»

و لكن مقتضي التحقيق تخصيص عموم التعليل في الطائفة

الأولي بعمومه في الثانية؛ لأنه في خصوص السمك الذي مات في الماء بعد وقوعه في آلة الصيد.

و منها: ما لو اشتبهت القبلة فاستدل في الحدائق بنصوص هذه القاعدة علي انتفاء حرمة الصلاة إلي أية جهة بعد الاجتهاد و اليأس؛ حيث قال: «لو

______________________________

(1) كفاية الأحكام: ص 251.

(2) وسائل الشيعة: ج 16، ص 300، ب 33 من الذبائح، ح 2 و ص 303، ب 35، ح 1.

(3) وسائل الشيعة: ج 16، ص 303، ب 35 من الذبائح، ح 3.

(4) مستند الشيعة: ج 15، ص 466.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 42

اشتبهت القبلة قيل: وجب الاجتهاد في تحصيلها من باب المقدمة، فان حصل شيئا من الأمارات بني عليه و إلّا انتفي التحريم أو الكراهة. و استقرب السيد في المدارك احتمال انتفائهما مطلقا، للشك في المقتضي. و الظاهر أنّ وجه قربه أنّ ذلك مقتضي صحيحة ابن سنان الدالة علي أنّ كل شي فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتي تعرف الحرام بعينه فتدعه. و نظائرها». «1»

و يرد عليه أنّ هذه النصوص منصرفة عن مثل هذا المورد. و إنما هي ناظرة إلي التصرف في مشكوك الحلية بأنحاء التصرفات.

إلي غير ذلك من الفروع في مختلف أبواب الفقه استدلّ لها الفقهاء الفحول بهذه القاعدة. و هي أكثر من أن تحصي.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 42.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 43

قاعدة أصالة الصحّة

اشارة

1- تحرير مفاد القاعدة و بيان المقصود منها 2- تنقيح الصور و بيان مقتضي التحقيق 3- مدرك هذه القاعدة 4- النصوص الإمضائية 5- هل هي من الأمارات أو الاصول؟

6- أصالة الصحة من الاصول التنزيلية 7- مثبتات هذه القاعدة 8- مجاري هذه القاعدة و

تطبيقاتها 9- حال هذه القاعدة مع معارضة ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 45

تحرير مفاد القاعدة و بيان المقصود منها

ينبغي لتحرير مفاد هذه القاعدة و بيان المقصود منها و ما يعتبر في جريانها ذكر أمور.

الأوّل: إنّ مورد أصالة الصحة- كما هو المعلوم من عنوانها- إنّما هو فعل الغير، لا فعل نفس الشاك؛ لأنه الذي تساعده أدلّة هذه القاعدة من السيرة و النصوص، و سيأتي بيانها، كما أنّ موردها لا يختصّ بالشك بعد المضيّ أو الفراغ من العمل. و بذلك تفترق عن قاعدتي التجاوز و الفراغ؛ نظرا إلي أنّ موردهما فعل الشاك نفسه و بعد المضي أو الفراغ من العمل.

و الحاصل: أنّ مصبّ هذه القاعدة فعل الغير، من غير فرق بين كون الشك بعد المضيّ أو الفراغ من العمل أو في أثنائه.

الثاني: إنّ الصحيح قد يراد به ما يقابل القبيح، فالمقصود من أصالة الصحة حينئذ هو الحمل علي الحسن و المباح، بمعني نفي القبيح و الحرام عن فعل المسلم.

و يدلّ علي هذا المعني بعض الآيات و الروايات.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 46

فمن الآيات:

قوله تعالي: «يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ … ». «1» فإنّ المقصود من الايمان للمؤمنين في هذه الآية تصديقهم في أقوالهم ظاهرا. و يشهد لذلك استدلال الامام الصادق عليه السّلام في صحيح حريز بهذه الآية؛ حيث قال عليه السّلام مخاطبا لابنه إسماعيل: «يا بنيّ إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، يقول:

يصدّق باللّه و يصدّق للمؤمنين، فاذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم». «2» فإنّ تصديق المؤمنين في شهادتهم معناه حمل كلامهم علي الصدق- الذي هو الحسن- و نفي الكذب القبيح عنه.

و من النصوص:

قوله عليه السّلام: «كذّب

سمعك و بصرك عن أخيك. فان شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال، و قال: لم أقله، فصدّقه و كذّبهم». «3»

و إنّ مراده عليه السّلام من تصديق الأخ المؤمن تصديق قوله بالحمل علي الصدق ظاهرا، من دون ترتيب أثر عليه، و لا علي شهادة القسامة. و لا يخفي أنّ هذه الشهادة غير الشهادة عند الحاكم، و إلّا فيكفي شهادة عدلين للحكم.

و مما يشهد لذلك؛ أي إرادة التصديق ظاهرا، أنّ تصديق شخصين واقعا عند القطع بكذب أحدهما غير ممكن، فلا مناص من حمل قوله عليه السّلام:

«يصدّق للمؤمنين» علي التصديق الظاهري.

و من هذه النصوص:

قوله عليه السّلام: «ضع أمر أخيك علي أحسنه حتي يأتيك ما يغلبك منه، و لا تظنّنّ بكلمة

______________________________

(1) سورة التوبة: الآية 61.

(2) تفسير نور الثقلين: ج 2، ص 236، ح 218.

(3) وسائل الشيعة: ج 8، ص 609، ب 157 من أحكام العشرة، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 47

خرجت من أخيك سوء و أنت تجد لها في الخير محملا». «1»

أي إذا رأيت من أخيك المؤمن قولا أو فعلا و محتملا للحسن و القبح و الحلال و الحرام، فاحمله علي الحسن و الحلال، لا علي القبيح و الحرام.

و منها: قوله عليه السّلام: «إذا اتّهم المؤمن أخاه انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء». «2» قوله انماث أي ذاب.

و لا يبعد كون المراد من الأخ المؤمن في هذه النصوص هو المعتقد بولاية الائمة عليهم السّلام، و لا مطلق المسلم؛ نظرا إلي ظهور لفظ المؤمن في لسان النصوص في ذلك عند عدم القرينة، نعم يكون في اصطلاح القرآن بمعني مطلق المسلم.

و لا يخفي عليك أن المقصود من أصالة الصحة في فعل الغير ليس

هذا المعني، بل هو خارج عن محل الكلام و لا يترتب علي هذا الحمل أثر وضعيّ. فلا كلام في وجوب حمل فعل المؤمن علي المباح و الحلال.

و إنّما الكلام في حمل فعله علي الصحيح بالمعني المقابل للفاسد، أي تام الأجزاء و الشرائط، كما هو المصطلح عليه بين الفقهاء و الاصوليين، و قد عقدوا لذلك مسألة الصحيح و الأعم في علم الاصول. و إنّ النسبة بين الصحيح بهذا المعني الوضعي و بين معناه الأوّل- الحسن المباح- هي العموم و الخصوص مطلقا؛ حيث إنّ كل صحيح بالمعني الثاني صحيح بالمعني الأوّل؛ إذ لا يمكن كون الفعل تام الأجزاء و الشرائط- التي اعتبرها الشارع فيه- و مع ذلك لم يكن جائزا، و لا عكس؛ حيث إنه قد يتفق كون الفعل

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 8، ص 614، ب 161 من أحكام العشرة، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 8، ص 613، ب 161 من أحكام العشرة، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 48

مباحا و لكن باطلا، كما لو أخلّ المصلّي ببعض شرائط الصلاة أو أركانها نسيانا فيكون فعله- و هو الاتيان بالصلاة- حينئذ حسنا مباحا و لكنه باطل غير صحيح بالمعني الثاني.

و عليه، فمعني أصالة الصحة المبحوث عنها في المقام هو ترتيب أثر العمل الصحيح (تام الأجزاء و الشرائط) علي فعل المسلم عند ما شكّ في صحته، و لا تختصّ بالفعل الصادر من المؤمن (بمعناه الأخص)، بل هي جارية في حق جميع المسلمين، بل في حق غير المسلمين، من ساير الملل و الفرق، بناء علي ابتناء هذه القاعدة علي سيرة العقلاء.

الثالث: هذه القاعدة أصولية أو فقهية.

عقد جماعة البحث عن هذه القاعدة في ضمن القواعد الفقهية و

الأكثر جعلوها في ضمن القواعد الأصولية، عند البحث عن معارضتها مع الاستصحاب و عقد بعضهم عنوانا مستقلا لهذه القاعدة في عداد ساير المسائل الاصولية.

و التحقيق: أنّها من القواعد الأصولية: نظرا إلي ما سبق منّا في كتابنا «بدائع البحوث» من اعطاء الضابطة في القاعدة الأصولية بأنّها كل قاعدة تكون نتيجتها حجّة علي الحكم الكلي الشرعي. و إنّ نتيجة البحث عن هذه القاعدة هي حجية هذه القاعدة علي الحكم بصحة الفعل الصادر عن الغير، بلا فرق في ذلك بين كونها من الأمارات أو من الاصول العملية المحرزة أو غيرها. فليست هذه القاعدة بنفسها حكما من الأحكام لكي تكون من القواعد الفقهية، بل إنما هي حجّة علي الحكم الوضعي هو صحة فعل الغير.

و انّما بحثنا عنها في ضمن القواعد الفقهية؛ نظرا إلي جريان عادة القوم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 49

علي ذلك في تأليفهم كتب القواعد الفقهية.

الرابع: ما هو المراد من الصحة؟

قد يقال: إنّ المقصود من الصحة في المقام هو الصحة الواقعية، لا الصحة عند العامل، كما نسب إلي الميرزا القمي.

و علّل ذلك أولا: بأنّ سيرة المتشرعة أو العقلاء- و هي عمدة مدرك هذه القاعدة- قد قامت علي ترتيب آثار الواقع علي العمل الصادر من الغير.

و ثانيا: بأنّ من الواضح أنّ صحة العمل عند الفاعل لا توجب أن يرتّب الحامل عليه آثار الواقع؛ نظرا إلي وضوح عدم الملازمة بينهما؛ حيث إنّ أصالة الصحة لا توجب أكثر من العلم بصحة العمل عند عامله.

و إنّ العلم بصحة العمل عند العامل لا يوجب أن يرتّب غيره أثر الصحة علي ذلك العمل. و من هنا لو علم المأموم بطلان صلاة الامام- لجهله بالحكم أو الموضوع- لا يجوز له الاقتداء

به، و إن علم أنّ الامام يراه صحيحا.

تنقيح الصور و بيان مقتضي التحقيق

و لكن لبيان مقتضي التحقيق في المقام ينبغي بيان صور جريان هذه القاعدة.

فنقول: إن في المقام صورا من جهة علم الفاعل، و جهله بالحكم و من جهة العلم بحاله و عدمه.

و ذلك لأنّ الحامل إمّا أن لا يطّلع عن حال الفاعل، فلا يعلم أنّه عالم بالحكم أم لا؟ أو يطّلع عن حاله.

فعلي الأوّل: لا إشكال في جريان أصالة الصحة عند العقلاء في الجملة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 50

علي تفصيل يأتي.

و أما علي الثاني: فإمّا أن يعلم الحامل بأنّ العامل غافل عن الصحة و الفساد لجهله بالحكم أو الموضوع. فلا ريب في عدم جريان أصالة الصحة حينئذ. و ذلك لأنّ عمدة دليلها هي السيرة، و إنّ مصبّ جريانها هو الأخذ بظاهر حال العامل، و إنّ الغافل لا ظهور لحاله. و علي فرض الشك في دخوله في مصبّ السيرة لا تجري هذه القاعدة؛ لأنّ السيرة دليل لبيّ يؤخذ بالقدر المتيقن من جريانها. و لا إطلاق أو عموم لفظي في المقام لكي يرجع إليه عند الشك، كما ستعرف في بيان مدرك القاعدة.

و إمّا أن يعلم الحامل بأنّ العامل عالم بالصحة و الفساد و ملتفت إليهما، فحينئذ إما أن يعلم الحامل موافقة الفاعل معه في شرائط الصحة و ما يعتبر فيها من القيود، أو يعلم مخالفته معه في ذلك اجتهادا أو تقليدا.

ففي الفرض الأوّل تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي احتمال صحة عمل الفاعل واقعا عند الحامل أيضا، بل هذا الفرض هو المتيقن من موارد جريان هذه القاعدة.

و أما إذا علم الحامل مخالفة الفاعل له في الاعتقاد فلا يمكن له حمل فعله علي الصحيح واقعا؛ نظرا إلي أنّ

صحة فعل العامل حسب اعتقاده، لا يستلزم كونه صحيحا عند الحامل. و إنّ ظاهر حال العامل أن يعمل حسب ما يراه صحيحا في اعتقاده. و هذا لا يثبت أكثر من صحة العمل حسب اعتقاد العامل. و المفروض أنّ الحامل لا يراه صحيحا واقعا. و لا ينافي ذلك كونه صحيحا عند العامل.

و عليه فلا تجري أصالة الصحة في هذا الفرض بالتفسير المزبور، أي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 51

الحمل علي الصحة واقعا.

هذا إذا كانت المخالفة بينهما بالتباين بأن كان ما هو الصحيح عند الفاعل فاسدا في نظر الحامل و أمّا إذا لم يره الحامل باطلا، كأن اشترط شي ء في صحة العمل باعتقاد الفاعل كتثليث التسبيحات الأربع، و لا يراه العامل شرطا، مع أنه لا يراه مبطلا للصلاة أيضا، فحينئذ تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي احتمال الحامل صحة العمل الصادر من العامل واقعا.

و الحاصل: أنّ الفاعل إذا كان غافلا عن فساد عمله لجهله بالحكم أو الموضوع، أو كان معتقدا بخلاف ما يعتقده الحامل، بأن يري فعله باطلا، لا تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي عدم ظهور لحال الفاعل في الصورة الاولي لغفلته و جهله، و أنّ غاية ما يقتضيه ظاهر حاله في الصورة الثانية صحة العمل عند نفسه، لا حسب ما يراه الحامل واقعا. و هذا واضح بناء علي كون المأخوذ في أصالة الصحة هو الصحة الواقعية عند الحامل.

و لكن عمدة الإشكال في تفسير الصحة بالصحة الواقعية عند الحامل، كما أشار إلي هذا الإشكال الامام الراحل. «1»

و ذلك أولا: لأنّ الأثر في إجراء هذه القاعدة و إن يترتب علي الصحة الواقعية، كما لا ريب في أنّ المقصود من الصحة هو الصحة الواقعية، إلّا أنّها ليست

الصحة عند الحامل دائما، حيث ربما يترتب الاثر علي الصحة عند العامل. و ذلك فيما إذا لا ربط لعمل العامل بالحامل، كالعبادات الفردية، كما يتوقف ترتب الأثر علي الصحة عند الحامل في صلاة الجماعة، و أنواع المعاملات المترتبة صحتها علي الصحة عند الطرفين.

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 322.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 52

نعم لو كان الحامل في المعاملات شخصا ثالثا غير الطرفين فأيضا تكون الصحة عند العامل، فانّ حمل معاملة الغير علي الصحة حينئذ بمعني صحته حسب اعتقاده. و يظهر أثره في جواز شراء ما انتقل إليه بتلك المعاملة المحكومة بالصحة حسب اعتقاده.

و ثانيا: لأنّ ما يساعده الاعتبار و يقتضيه ظاهر حال العاقل الملتفت و استقرّت عليه السيرة، هو مطابقة فعل أيّ شخص مع اعتقاده، سواء طابق الواقع أم لا؟ غاية الأمر إذا توافق رأي الحامل و الفاعل، فلمّا يري الحامل رأي الفاعل مطابقا لاعتقاده، يري عمله صحيحا واقعا و من هنا يحمل عمله علي الصحيح واقعا عند الشك في صحته.

و عليه فتفسير الصحة بالصحة الواقعية عند الحامل في مطلق موارد جريان هذه القاعدة يشكل الالتزام به.

و قد اتضح بما قلنا أنّه إذا جهل الحامل بحال الفاعل، لا بد له أوّلا من إحراز مطابقة رأيه مع اعتقاد نفسه، و لا أصل بين العقلاء يحرز به ذلك، بل ربما تكون الغلبة في اختلاف الآراء، إلّا في مسائل اتفاقية أو قليلة الاختلاف، فحينئذ لا يعتنون باحتمال المخالفة في الرأي، و يحملون فعل الغير علي الصحة الواقعية. و هذا بخلاف المسائل كثيرة الاختلاف.

و بناء علي ذلك لو كان الحامل جاهلا بحال الفاعل في المسائل الاختلافية، فأيضا لا تجري أصالة الصحة بمعني الحمل علي الصحة

الواقعية، بل إنما تجري بمعني الحمل علي ما هو الصحيح عند الفاعل. و أثره كون عمله محكوما بالصحة عند نفسه، فلا يرتكب حراما، و لا إعادة و لا قضاء و لا كفارة عليه في مواردها، من دون ترتب أثر الصحة عند الحامل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 53

و إنمّا تظهر أثر الصحة هاهنا- بمعناه الوضعي المأخوذ في جريان هذه القاعدة- في عمل النائب عن الميت، فاذا كان عمله صحيحا حسب اعتقاده بمقتضي أصالة الصحة يسقط وظيفة الحامل إذا كان وصيا أو وليّ الميت.

و كذا تظهر ثمرتها في قضاء الولد الأكبر عن أبيه، فاذا ثبتت صحة صلاة أبيه- عند الشك في صحتها- بأصالة الصحة تسقط عنه الوظيفة؛ لأنّ المناط في سقوط الوظيفة في كلا الموردين هو صحة العمل عند الفاعل.

هذا في العبادات.

و أما في المعاملات، فأثره جواز تصرفه في المال المنتقل إليه بالمعاملة فيما لو كان الحامل شخصا ثالثا، غير طرفي المعاملة، فيجوز له شراء ما انتقل إليهما بتلك المعاملة.

و حاصل الكلام: أنّ مقتضي التحقيق في المقام: أنّه لا دليل علي أخذ الصحة عند الحامل في جريان أصالة الصحة و إن كان هو الغالب من جهة ترتب الآثار، بل تجري لإثبات الصحة عند الفاعل أيضا.

و ذلك أولا: لأنّه مقتضي ظاهر حال العاقل الملتفت، بل عليه سيرة العقلاء؛ فانهما يقضيان بمطابقة عمل كل عاقل ملتفت مع اعتقاده.

و ثانيا: ربما يترتب الاثر الشرعي علي الصحة عند الفاعل كما أشرنا إليه آنفا. و عليه ففي المقام، فإن قلنا بأخذ الصحة الواقعية عند الحامل في جريان أصالة الصحة، لا بد من التفصيل من جهة العلم بحال الفاعل و عدمه و علمه بالحكم و جهله، فاذا لم يطلع

الحامل عن حال الفاعل تجري أصالة الصحة في غير المسائل كثيرة الاختلاف. و أمّا إذا اطّلع عن حاله بالمخالفة في الرأي فلا إشكال في عدم جريان أصالة الصحة، لو كانت المخالفة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 54

بالتباين و لا مانع من جريانها في المخالفة بغير التباين، كما قلنا.

و أما إذا اطلع عن حاله بالموافقة في الاعتقاد فلا ريب في جريان قاعدة أصالة الصحة، بل هذه الصورة هي المتيقّنة من جريانها، كما لا إشكال في عدم جريانها فيما إذا اطلع عن حاله بكونه غافلا عن الصحة و الفساد.

و أما إذا لم نقل بأخذ الصحة الواقعية عند الحامل في جريان هذه القاعدة- كما هو مقتضي التحقيق- فتجري في صورة العلم بالمخالفة و في المسائل الاختلافية إذا لم يعلم رأي الفاعل و يترتب الأثر الشرعي عليها، كما في النيابة عن الميت و باب الوصاية و العبادات الاستيجارية و غير ذلك.

الخامس: إحراز أصل العمل.

و ذلك لوضوح عروض كل صفة علي موصوفها، فما دام لم يحرز وجود المعروض لا يعقل الشك في اتصافه بتلك الصفة. و إنّ الصحة المشكوكة حسب الفرض صفة لأصل العمل، فلا بد من إحرازه لكي يعقل الشك في صحته. و من هنا لا سيرة للعقلاء علي جريان القاعدة إلّا بعد إحراز تحقق ذات العمل، كيف ما كان سنخ ذاته.

و عليه فلو كان العمل من العناوين القصدية المتقوّمة بالقصد، يعتبر إحراز قصد ذلك العمل في جريان أصالة الصحة عند الشك في صحته، بلا ريب؛ نظرا إلي عدم تحقق عنوان العمل بدون القصد حينئذ. و لذا لا بد من تحقق قصد عنوان أصل العمل في جريان هذه القاعدة في مثل الصلاة و الصوم و الغسل

و الوضوء مما يتقوّم عنوانه بالنية، بل قد يقال باعتبار إحرازه في العناوين غير القصدية أيضا، كما لو رأينا أحدا يصبّ الماء علي ثوب و لا ندري أنه قصد بذلك التطهير أو إزالة الوسخ، فيشكل في إجراء

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 55

أصالة الصحة في عمله و الحكم بطهارة ذلك الثوب.

ثم قال هذا القائل: «نعم بعد إحراز كونه قاصدا للتطهير لو شككنا في حصول الطهارة الشرعية لاحتمال الاخلال بشرط من شروطها كالعصر و التعدّد يحكم بحصولها حملا لفعله علي الصحة». «1»

و قد يشكل علي ذلك بأنّ قصد التطهير إذا لم يكن معتبرا في عنوانه و صحته فلا وجه للشك في صحته من جهة تعلق القصد.

و يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الشك في صحته من جهة عدم إحراز تعلّق القصد بالتطهير و إن لا وجه له، إلّا أنّ الشك في صحته لاحتمال الاخلال بشرط من شرائط الطهارة الشرعية- كالعصر و التعدد- بمكان من الامكان و لو لم يحرز قصد التطهير؛ لعدم منافاة بينهما.

و عليه فحينما شك في صحة الغسل شرعا لاحتمال الاخلال بشرط لا يمكن إجراء أصالة الصحة ما دام لم يحرز كونه قاصدا للتطهير و بصدد الغسل الشرعي. و ذلك لأنّ السيرة إنما استقرت علي جريان هذا الأصل في عمل أحرز كون الغير بصدد اتيان ذلك العمل، و هذا هو منصرف ما يشعر إلي هذا الأصل من النصوص.

فمقتضي القاعدة في مفروض الكلام عدم تحقق ما شك في حصوله من الشروط، كالعصر و التعدد، فانهما أمران حادثان و الأصل عدم حدوثهما فيحكم بعدم تحقق الغسل الشرعي حينئذ.

و بناء علي ذلك ففي العبادات النيابية يشترط إحراز قصد النيابة في جريان هذا الأصل. و

إلّا لا يثبت بأصالة الصحة متعلق الاستيجار؛ لأنّ

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 332.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 56

مرجع الشك حينئذ إلي الشك في إتيان متعلق الاستيجار صحيحا لكي يستحق العامل الاجرة بذلك.

و عليه فلو شك في أنّ العامل هل قصد النيابة من عمله أو لا، بل عمل لنفسه، لا تنفع أصالة الصحة في الحكم باستحقاقه للأجرة؛ لأنه فرع اتيان العمل النيابي صحيحا، لا الصحيح مطلقا، و لو بدون قصد النيابة.

و أما الجمع بين عدم حصول فراغ الذمة لعدم قصد النيابة، و بين استحقاق الاجرة للإتيان بالعمل صحيحا، عند الشك في صحة العمل النيابي- كما يظهر من الشيخ الأعظم- فلا يصح. و ذلك لعدم كون مورد الاجارة هو الاتيان بالعمل الصحيح مطلقا، بل هو الاتيان به نيابة عن الغير.

ثم إنه لا طريق إلي إحراز هذا القصد إلّا إخبار العامل؛ لأنه أمر قلبي لا يعلم إلّا من قبله، و لا يمكن العلم الوجداني و لا إقامة البيّنة عليه.

و لا ريب في عدم اعتبار قوله إذا كان فاسقا. و أمّا أنّه هل تعتبر العدالة في سماع قوله أو تكفي وثاقته، فالأقوي أنّه تكفي وثاقته؛ نظرا إلي جريان سيرة العقلاء عليه، و لدلالة النصوص المعتبرة علي حجية خبر الثقة، كما أشرنا إلي بعضها في كتابنا «مقياس الرواية». و أمّا العدالة فلا دليل علي اعتبارها في مطلق الموضوعات و لا بالخصوص في المقام، كما ورد في الشهادة و نحوها.

و لا يخفي أن المقصود من إحراز العمل هو إحراز أصل وقوعه في موطنه (ماضيا أو مستقبلا أو حالا)، و لا بمعني مضيّ زمن وقوعه، و إلّا لم يكن فرقا بينه و بين قاعدة الفراغ من هذه

الجهة.

و مما ينبغي ذكره في المقام أنّ بعض الاصول العقلائية كأصالة الجد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 57

و الالتفات و نحوهما يجري عند الشك في أنّ عنوان العبادة أو المعاملة مقصود العامل من فعله جدا، و يحرز بهذه الاصول العقلائية تعلّق القصد الجدي من العامل بتلك العبادة أو المعاملة، و إنّ هذه الاصول في الحقيقة منقّحات لموضوع أصالة الصحة، و هو أصل العمل، و إنما تجري لنفي احتمال الهزل و الغفلة بعد إحراز قصد العامل أصل العمل، و إلّا فلا تنفع في تنقيح موضوع هذه القاعدة.

ثم إنّه يظهر من الامام الراحل «1» أنّه إذا كان الشك في جزء متمّم لعمل، كالشك في تعقّب الايجاب بالقبول، بعد العلم بتحقق الايجاب، لا مجال لأصالة الصحة؛ لأن الشك في تحقق الجزء المتمّم، لا في صحة الايجاب نفسه.

و فيه: أنّه إذا عقد شخصان معاملة و شككنا في صحتها تجري أصالة الصحة في المعاملة الصادرة منهما مطلقا، سواء كان الشك في صحة بعض أجزاء تلك المعاملة، كالإيجاب نفسه أو القبول نفسه، أو في تحقق الجزء المتمّم و ضمّه إلي الجزء الآخر. فعلي أيّ حال قد صدر منهما فعل- و هو المعاملة- و شككنا في صحته، فتجري أصالة الصحة، بلا فرق بين منا شي ء الشك و موارده.

نعم لو لم نحرز تحقق أصل عنوان العقد للعلم بعدم تحقق ما يتقوّم به من أركان العقد عرفا كالإيجاب أو القبول أو نحوهما أو شك في ذلك لا تجري أصالة الصحة؛ نظرا إلي اعتبار صدق أصل عنوان العمل، دون ما لو شك في ما يعتبر في صحته شرعا.

و لعلّ مقصود الامام قدّس سرّه هو ما لو شك في الركن المقوم لعنوان العقد

______________________________

(1)

الرسائل: ج 1، ص 327.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 58

و بناء عليه لا يرد إشكال، كما يفهم من تمثيله بالايجاب.

السادس: إحراز قابلية الفاعل و المورد.

بيان ذلك: أنّ الشك في صحة عمل الغير تارة: يكون لأجل الشك في قابلية الفاعل، و أخري: لأجل الشك في قابلية المورد، و ثالثة: لاحتمال فقدان شرط أو وجود مانع مع إحراز قابلية الفاعل و المورد.

و لا كلام في حجية أصالة الصحة في الصورة الأخيرة.

و أما الاوليان فقد وقع الخلاف في حجية أصالة الصحة في مواردهما.

و لتحقيق ذلك نقول:

إنّ كلّ واحد من قابلية الفاعل و المورد إمّا عرفي أو شرعي، أما القابلية العرفية للفاعل، مثل كون البائع مميزا بأن لا يكون مجنونا أو سفيها أو صبيا غير مميز، و الشرعية مثل كونه بالغا أو غير مفلّس و أما القابلية العرفية للمورد مثل كون المبيع مالا عرفا، و الشرعية مثل كونه مما يملك شرعا، دون ما لا يملك شرعا كالخمر و الخنزير.

فنسب إلي العلامة و المحقق عدم جريان أصالة الصحة إذا لم تحرز قابلية الفاعل و المورد؛ بدعوي أنّ الحمل علي الصحة إنّما هو فيما إذا شك في الصحة الفعلية بعد إحراز الصحة التأهليّة.

و ذهب الشيخ الأعظم الانصاري إلي جريانها حينئذ؛ بدعوي قيام السيرة علي جريان هذه القاعدة مع الشك في قابلية الفاعل و المورد. كما لو شك في صحة معاملة لأجل الشك في أنّ البائع مالك أو غاصب، فانّ السيرة جارية حينئذ علي أصالة الصحة و ترتيب آثار العاملة الصحيحة.

و لكن الأقوي ما ذهب إليه العلامة و المحقق، من اعتبار إحراز قابلية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 59

الفاعل و المورد في جريان أصالة الصحة

ما لم تجر قاعدة اليد، و إلّا فلا تصل النوبة إلي أصالة الصحة.

و ذلك لأنّ عمدة دليل هذه القاعدة- و هي السيرة- يشكل إحرازها عند الشك في قابلية الفاعل و المورد. حيث إنّا نري في سيرة أهل العرف؛ أنّه إذا باع زيد دار عمرو- مثلا- مع اعترافه بأنه ملكه، و شكّ في أنه وكيله، لا يقدمون علي شراء الدار منه، و كذا لو طلّق زيد زوجة عمرو مع الشك في أنه وكيله، فلا يرتّب المتشرعة أثرا علي طلاقه، و لا أقلّ من الشك في جريان السيرة علي ترتيب آثار الفعل الصحيح عند الشك في قابلية الفاعل.

و من هنا يشكل دعوي جريان أصالة الصحة في سيرة المتشرعة عند الشك في بلوغ المتعاملين، أو في عقلهما أو رشدهما، و كذا عند الشك في قابلية المورد عرفا، كما لو شكّ في أنّ المبيع هل له مالية عند أهل العرف أم لا؟ فلم يعلم ترتيب آثار البيع الصحيح حينئذ علي مثل هذه المعاملة في سيرة العقلاء، بل ربما يرجع الشك في قابلية المورد إلي الشك في أصل عنوان العمل.

و علي أيّ حال فالسيرة لا بد من إحرازها، و هو مشكل في المقام، فإنها دليل لبّي يؤخذ بالقدر المتيقن من مستقرّها.

و أما ترتيب آثار المعاملة الصحيحة عند الشك في كون البائع مالكا أو غاصبا، أو ما إذا كان منشأ الشك في صحة الشك في قابلية المورد شرعا، كما لو شكّ في صحة معاملة لأجل الشك في كون المبيع مما يملك شرعا أو مما لا يملك لاحتمال كونه لحم الخنزير، فانما يكون لأجل قاعدة اليد؛ حيث لو لا أمارية اليد لما قام للمسلمين سوق، كما ورد في النص، و سيأتي توضيح

ذلك في تحقيق قاعدة اليد، و ليس ترتيب آثار الصحة لأجل جريان

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 60

قاعدة الصحة في مفروض الكلام؛ لأنّها إنّما تجري إذا لم تكن أمارة، و إلّا لا تصل النوبة إلي هذه القاعدة؛ حيث أخذ في موضوعها الشك في الصحة.

مدرك هذه القاعدة

اشارة

قد استدل لهذه القاعدة بوجوه.

الأوّل: الإجماع المحصّل

من تتبّع فتاوي الفقهاء.

و فيه أولا: أنّ تحصيل الاجماع في جميع الموارد مشكل؛ نظرا إلي توقف تحصيله علي إحراز استنادهم إلي هذه القاعدة في ترتيب أثر الصحيح علي ما شك في صحته في جميع الأبواب حتي المعاملات. و إثبات ذلك مشكل جدّا، لما عرفت من ابتناء ذلك غالبا في المعاملات علي قاعدتي اليد و السوق.

و ثانيا: علي فرض إحراز ذلك لا قيمة لهذا الاجماع لاحتمال استنادهم في الاتفاق علي ذلك إلي بعض الوجوه الآتية، بل من المظنون قويا، فهو مدركي، لا تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

الثاني: ما استدل به من الكتاب

. فمن ذلك قوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ». «1»

وجه الدلالة ظهوره في أنّ ظنّ السوء بالأخ المؤمن إثم و حرام. و لازم ذلك وجوب حمل أفعاله و أقواله علي الصحة، كما استدل بهذا التقريب السيد مير عبد الفتاح. «2»

و فيه: أنّ بطلان العمل لا يلازم المعصية؛ لأنه ناشئ من الخطأ

______________________________

(1) سورة الحجرات: الآية 12.

(2) العناوين: ج 2، ص 545.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 61

و الاشتباه أو الجهل بالحكم، فعدم حمل فعل المسلم علي الصحة لا يستلزم ظن السوء في حقّه، فليس هذا هو المقصود من الآية، بل ظاهرها هو حمل فعل المسلم علي الجائز الحلال و المشروع المباح و النهي عن الظنّ بارتكاب المعصية و القبيح في حقه ما دام يحتمل المباح و المشروع.

و هذا المعني خارج عن محل الكلام، و ليس هو المقصود من أصالة الصحة في كلمات الفقهاء، كما سبق بيان ذلك في تحرير مفاد القاعدة.

و منه: قوله تعالي: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناء علي عدم اختصاص الخطاب بالمتعاقدين و شموله لجميع المكلّفين، فيكون

الجميع مأمورين بالوفاء، بمعني ترتيب آثار الصحة علي العقد الواقع من المتعاملين.

و ردّ ذلك أولا: بأنّ الخطاب في الآية إلي خصوص المتعاقدين، و أما صيغة الجمع «أوفوا» فهي علي سبيل الانحلال شامل لآحاد المتعاقدين، فلا تشمل هذه الآية جميع المكلّفين حتي تصلح للدليلية علي حمل غير المتعاقدين فعلهما علي الصحة.

و ثانيا: بأنه علي فرض عمومية الآية لغير المتعاقدين فانما هي تختص بالعقود و لا تشمل الايقاعات. و علي فرض شمولها للإيقاعات- بناء علي كون المراد بالعقود المعني اللغوي، لا الاصطلاحي المقابل للإيقاعات- تختص بالمعاملات، فيكون مدلولها أخصّ من المطلوب إذ الكلام في اعتبار أصالة الصحة في جميع الموارد حتي العبادات.

و ثالثا: بأنّ الشبهة في موارد جريان أصالة الصحة مصداقية؛ إذ هي من الاصول المجعولة في الشبهات الموضوعية، دون الحكمية. بمعني أنّ العمل الصادر من المكلّف هل هو واجد لتمام الأجزاء و الشرائط و فاقد للموانع أم لا؟

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 62

و قد ثبت في الاصول عدم جواز الرجوع إلي العام في الشبهات المصداقية.

الثالث: عموم التعليل الوارد في قاعدة اليد في صحيح حفص بن غياث

بقوله عليه السّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» فانه يشمل بعمومه مجري أصالة الصحة؛ حيث إنّه لو لا جريانها و اعتبارها في مواردها لما قام سوق للمسلمين.

و فيه أولا: أنّ مجري هذه القاعدة يختص بصورة الشك في الصحة و هي موضوعها، و الحال أنّ اليد أمارة و طريق إلي الواقع كسائر الأمارات و تعتبر في مطلق موارد الجهل بالواقع، اللهم إلّا أن يقال بابتناء أصالة الصحة علي سيرة العقلاء المستقرّة في مطلق الجهل بحال الغير. و لكنه غير معلوم فإنّ المتيقن من مستقرّها هو صورة الشك في صحة فعل الغير.

و ثانيا إنّ قاعدة اليد

تختصّ بالمعاملات، و الحال أنّ المطلوب في المقام إثبات اعتبار أصالة الصحة في مطلق الموارد، حتي العبادات.

الرابع: سيرة المتشرعة؛

اشارة

حيث إنّها قد استقرّت منهم علي ترتيب آثار الصحة علي فعل المسلم عند الشك في صحته في جميع الموارد، بلا فرق بين العبادات و المعاملات، و لا بين العقود و الايقاعات. و لا ريب في اتصال هذه السيرة بزمان الشارع؛ حيث لم يسمع خلاف ذلك من أصحاب النبي صلّي اللّه عليه و آله و الأئمة، بل ورد عنهم عليهم السّلام ما يدل علي ارتضائه بذلك و إمضائه لهذه القاعدة، كما يجد المتتبّع ما يدل علي ذلك من النصوص.

بل ربما يقال- كما عن الامام الراحل قدّس سرّه «1» - بعدم اختصاص هذه السيرة بالمتشرعة، بل استقرّت بين العقلاء؛ نظرا إلي أنّ للمسلمين لم يكن طريقة

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 320.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 63

خاصّة كاشفة عن إبداع هذا الأصل من قبل الشارع، بل الضرورة قاضية باستقرارها بين العقلاء قبل الإسلام من بدء تمدّن البشر، و إنّ الإسلام قد جاء في عصر كانت أصالة الصحة- كقاعدة اليد و العمل بخبر الثقة- معمولة بين الناس. فان المسلمين كانوا يعملون بها من غير انتظار صدور حكم في ذلك من جانب الشارع، و الآن يحمل المسلمون أعمال ساير الملل علي الصحيح و إنهم أيضا يحملون أفعال المسلمين علي الصحيح في جميع الامور. و هذا يكشف أنّ عمدة دليل اعتبار أصالة الصحة هي سيرة العقلاء.

و لم يردع عنها الشارع، بل وردت روايات تدل علي امضائها.

النصوص الإمضائية

فمن هذه الروايات ما ورد في أبواب تجهيز الموتي؛ لدلالتها علي اكتفاء المسلمين من لدن صدر الإسلام علي فعل الغير في غسل موتاهم و كفنهم و ساير تجهيزاتهم، فكانوا يصلّون عليهم من غير تفتيشهم عن صحة أفعالهم و لم يكن ذلك

إلّا لبنائهم علي صحة فعل الغير.

و منها: ما دلّ علي جعل القاضي و الحاكم و إمام الجماعة و الوصي و القيّم، و ما دل علي اعتبار شهادة الشاهد في المحكمة، مع كونهم في معرض العثور و الزلّة، فليس ذلك إلّا لحمل أفعالهم علي الصحيح.

و منها، ما دلّ علي مشروعية التوكيل و الاستنابة في المعاملات، بل و بعض العبادات، كالحج و صلاة الميت، مع عدم صونهم من العثور و الخطأ، فلا يحرز صحة أعمالهم إلّا تعبّدا بأصالة الصحة.

إلي غير ذلك من الموارد. فإنّ النصوص الواردة في هذه الموارد تدلّ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 64

علي ابتناء مشروعية ترتيب آثار الصحة علي فعل الغير في العبادات و المعاملات علي هذه القاعدة و هي تصلح لإمضاء سيرة العقلاء.

و لا فرق في بناء العقلاء بين مضيّ زمان صدور الفعل من الغير و حال اشتغاله به و صدوره منه في المستقبل.

الخامس: توقف حفظ نظام المعاش، بل الحياة علي جريان هذه القاعدة

؛ إذ لو لا البناء علي صحة فعل الغير عند الشك للزم عدم الإقدام علي أثر المعاملات و عدم اعتماد أحد علي أحد في شي ء من أمور العيش و المعاشرات؛ و للزم العسر و الحرج الشديدان في حد الاخلال بامرار المعاش؛ لعدم إمكان تحصيل العلم بصحة فعل الغير في غالب الموارد و لا قيام البينة، بل للزم عدم إمكان فصل الخصومات و القضاء بين الناس.

و لا ريب أنّ ذلك ينجرّ إلي الهرج و المرج و سلب الأمنية عن المجتمع و تعطيل اقتصادهم و فساد معاشهم، و بالمآل يوجب الاختلال في نظام حياتهم.

و فيه: أنّه مع جريان قاعدة اليد و السوق في المعاملات لا يتوقف حفظ نظام المعاش علي جريان أصالة الصحة.

السادس: ظاهر حال الفاعل العاقل المختار الملتفت

، مطابقة عمله مع اعتقاده بمقتضي الفطرة و الغريزة التي خلق عليها الانسان و هو مجبول عليها. و ظاهر حال الانسان مأخوذ و حجّة في سيرة العقلاء و كذا ظاهر حال المسلم في سير المتشرعة.

و لكن هذا الدليل إنما يثبت الصحة عند العامل.

و هذا الدليل غير السيرة؛ لأنّها جريان عملي، و لكن هذا الدليل ناظر إلي ظاهر حال كلّ شخص بمقتضي الفطرة و بما أنّه إنسان عاقل مختار ملتفت.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 65

هل هي من الأمارات أو الاصول؟

لا ريب في أنّ أصالة الصحة من الاصول، لا الأمارات.

و الوجه فيه واضح؛ نظرا إلي أخذ الشك في موضوعها. فانّ عمدة دليل هذه القاعدة- و هي السيرة- إنّما استقرّت علي جريان هذا الأصل عند الشك في صحة فعل الغير؛ حيث لا معني للحمل علي الصحة و لا البناء عليها، إلّا إذا شك فيها. و كذا بالنسبة إلي ساير أدلة هذه القاعدة، حتي ظاهر حال الفاعل العاقل الملتفت. فعند الشك في صحة فعل الغير لاحتمال البطلان بأيّ سبب، يؤخذ بظاهر حاله و يدفع به احتمال البطلان و يبني علي صحة عمله.

و أما مشروعية جعل القاضي و التوكيل، فهي ثابتة بأدلّتها اللفظية، لا بأصالة الصحة. و أما الاكتفاء بغسل الموتي و كفنهم الصادر من المؤمنين فلعدم تحقق الشك في صحة فعلهم، لا لأصالة الصحة. نعم لو شك في صحة فعلهم تجري أصالة الصحة.

فلا يصغي إلي مقالة من قال بأنّ أصالة الصحة من الأمارات؛ لأنّ الأمارة لم يؤخذ في موضوعها الشك، بل جعلت حجة في مطلق الجهل بالواقع. حيث إنّ من الواضح أنّه ما لم يشك في الصحة لا معني للحمل و البناء عليها، كما هو المرتكز من سيرة العقلاء.

أصالة الصحة من الاصول التنزيلية

وقع الكلام في أنّ أصالة الصحة هل تكون أصلا تنزيليا أو غير تنزيلي.

مقتضي التحقيق أنّها من الاصول التنزيلية؛ إذ مفادها حسب مقتضي أدلّتها تنزيل فعل الغير منزلة الواقع و لو في اعتقاد العامل. و عليه فأصالة الصحة من الاصول التنزيلية المحرزة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 66

و أما مجرد الكاشفية الناقصة الثابتة لظاهر حال المسلم، بل أيّ فاعل عاقل ملتفت، فلا يوجب كون ظاهر حال المسلم أمارة علي صحة فعله.

و ذلك لأنّ ظاهر حال المسلم

إنّما يؤخذ به في سيرة المتشرعة عند الشك في صحة فعله و إنّ المعيار في الأصل أخذ الشك في موضوعه، كما أن في الاستصحاب تكون للحالة السابقة كاشفية ناقصة و مع ذلك يكون من الاصول و لم يقل أحد بأماريتها.

و لا يخفي أنّ هذه القاعدة ليست من قبيل الحكم؛ لأنّ البناء علي صحة فعل الغير و حمله علي الصحة، فعل الشخص الحامل عند الشك. كما أنّ الاستصحاب هو البناء علي ما كان ثابتا في السابق، و ليس نفسه حكما من أحكام العقل و الشرع، بل بناء عملي استقرّت عليه سيرة العقلاء و أمضاها الشارع.

مثبتات هذه القاعدة

قد يتوهم أنّ حجية أصالة الصحة بالنسبة إلي لوازمها العقلية و العادية منوطة بكونها من الأمارات؛ نظرا إلي حجية الأمارات في مثبتاتها دون الاصول.

و من هنا وقع الكلام في حجية مثبتات الأمارات.

فقال بعض الأعلام «1» بعدم حجية الأمارات في مثبتاتها كالأصول، و عدم الفرق بينهما من هذه الناحية، إلّا في الإخبار؛ نظرا إلي قيام سيرة العقلاء فيه علي الأخذ بلوازم الخبر. و وجّه ذلك بأنّ دليل اعتبار الأمارات الوارد من جانب الشارع إنما جعلها حجة تعبدية؛ لما لها من الكاشفية

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 155 و ص 333- 334.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 67

الناقصة عن الواقع وجدانا، فتمّمها دليل اعتبارها تعبّدا، لا وجدانا حتي تكون حجة في مثبتاتها.

و إنّما الحجة هي مثبتات المعلوم بالوجدان، لا بالتعبّد. و ذلك أنّه يحصل من العلم بالملزوم العلم بلازمه وجدانا، بعد الالتفات إلي الملازمة بينهما.

ففي الحقيقة يترتب العلم باللازم من العلم بالملازمة و العلم بالملزوم معا، لا خصوص العلم بالملزوم.

و استشهد لذلك بما قال علماء المنطق؛ من أنّ العلم بالنتيجة

يحصل من العلم بالصغري و الكبري معا. و مرجعه إلي توقف العلم باللازم علي ضمّ العلم بالملازمة إلي العلم بالملزوم وجدانا. و هذا بخلاف العلم التعبدي المجعول من قبل الشارع، حيث لا ملازمة عقلية بين المعلوم التعبّدي و بين لوازمه العقلية و العادية؛ نظرا إلي اختصاصها بالملزوم المعلوم وجدانا، فلا يلزم من المعلوم التعبدي العلم باللازم وجدانا، بل العلم التعبدي في هذه الجهة تابع لنطاق الدليل الشرعي الظاهر في حجية الأمارة في خصوص ما قامت عليه، دون لازمه العقلي و العادي.

و لكنّك عرفت من خلال هذا البيان أنّ كلام هذا العلم إنما يصح في أمارات ثبت اعتبارها بدليل خاص شرعي تعبدا، لا في الأمارات العقلائية التي استقرّ بناء العقلاء علي العمل بها. و لا في الامارات التي ثبتت حجيتها بدليل لفظي من الكتاب أو السّنة.

و ذلك لأنّ العقلاء يأخذون بلوازم ما يرونه حجّة كاشفة عن الواقع.

و من هنا لو قلنا بأمارية هذه القاعدة و بنينا علي أنّ أصالة الصحة لم يؤخذ الشك في موضوعها عند العقلاء لا مناص من القول بالأخذ بلوازمها كما أنّ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 68

الأمر كذلك في حجية خبر الثقة، بناء علي اعتباره ببناء العقلاء. كما أنّ ما ثبت اعتباره بدليل لفظي من الأمارات لا إشكال في حجية لوازمها؛ نظرا إلي حجية ظاهر الدليل اللفظي بما له من النطاق و الاطلاق و الاطلاق الشامل للّوازم التي داخلة في نطاق ظهور الدليل اللفظي.

فالحق في المقام أن يفصّل بين الأمارات العقلائية التي أمضي الشارع اعتبارها و بين الأمارات التعبدية التأسيسية، كما أشار إلي ذلك الامام الراحل قدّس سرّه و فصّل بذلك في المقام. «1» كما لا بد من هذا

التفصيل بين الأمارات التعبدية و بين ما ثبت اعتباره بالدليل اللفظي.

و تحرير كلامه قدّس سرّه: أنّ الامارات العقلائية التي أمضاها الشارع، لم تستقرّ سيرة العقلاء علي العمل بها، إلّا لأجل كشفها عن الواقع وجدانا لا للتعبّد بها.

و ذلك لأنّ في هذه الأمارات كاشفية ناقصة توجب مرتبة من الوثوق و الظن بالواقع وجدانا و هي توجب الظن الوجداني بلوازمه. و لذا تري العقلاء يرتّبون الأثر علي لوازمها و هذا بخلاف الأمارات التعبّدية التأسيسية التي لا توجب الظن الوجداني بمؤداها، فضلا عن لوازمها العقلية و العادية، كالإجماع و نحوه.

و الحاصل: أنّ مثبتات الأمارات العقلائية و الامضائية و التي ثبت اعتبارها بالدليل اللفظي حجة بخلاف الأمارات التعبدية.

و ذلك لأنّ في الأمارات العقلائية، لمّا جري بناؤهم علي ترتيب الأثر عليها بما أنّها طرق إلي الواقع وجدانا، فلذا يأخذون بلوازمها العادية و العقلية، فجرت سيرتهم علي ترتيب هذه الآثار. و أما الأمارات الثابتة بالأدلة

______________________________

(1) الرسائل: ج 1، ص 178 و 181.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 69

اللفظية فلدخول اللوازم العادية و العقلية في نطاق اطلاقها بحسب المتفاهم العرفي، كما هو المتفاهم من قولهم عليهم السّلام «صدّق العادل». و لا يتوقف ترتيب آثار اللوازم علي العلم بالملازمة بينها و بين المعلوم بالتعبد بل علي المتفاهم العرفي من الخطاب. و هذا بخلاف الأمارات التعبّدية المحضة المحضة كالإجماع.

و لا فرق في هذه الجهة بين الاصول و بين هذا النوع من الأمارات؛ (أعني بها التعبدية المحضة كالإجماع)؛ إذ الاصول و إن كانت عقلائية، إلّا أنّه أخذ الشك في موضوعها. فان بناء العقلاء و سيرتهم قد قامت علي العمل بالأصل بعد اليأس عن العلم بالواقع و الشك فيه، و هذا بخلاف الأمارات

العقلائية، فانّ بناء العقلاء قد قام علي الأخذ بها بلحاظ أنّهم يرونها طريقا إلي الواقع.

و إنّ نطاق حجية الاصول العقلائية لمّا يدور سعة و ضيقا مدار كيفية استقرار سيرة العقلاء، و إنّها لم تستقرّ في المقام إلّا علي معاملة الصحة مع نفس العمل الصادر من الفاعل، فلذا لا تترتّب عليه الآثار و اللوازم العقلية و العادية، بل و حتي اللوازم الشرعية؛ نظرا إلي عدم استقرار سيرة من العقلاء علي ترتيبها.

و إنّما تترتب الآثار الشرعية لأجل وقوع قاعدة كلية شرعية موضوع كبري شرعية أخري، كما هو الوجه في ترتيب الآثار الشرعية علي الاصول العملية، دون آثارها العقلية و العادية.

فان في المقام لا تثبت بأصالة الصحة في الطلاق- مثلا- إلّا صحة الطلاق، و لكن إذا صحّ الطلاق يندرج مورد الأصل تحت كبري عدة الطلاق المستفاد من قوله تعالي: «وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ» و هكذا ساير الكبريات الشرعية المترتبة عليها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 70

و الحاصل: أنّ مقتضي التحقيق هو التفصيل في حجية لوازم أصالة الصحة بين الآثار العقلية و العادية و بين الآثار الشرعية، فهي حجة في الثانية، دون الاولي، كما هو شأن ساير الاصول العقلائية. و قد اتضح لك من خلال ما بيّناه أنّ هذا التفصيل ليس لأجل كون هذه القاعدة من الأمارات، بل لأنّها من الاصول.

مجاري هذه القاعدة و تطبيقاتها

إنّ موارد جريان هذه القاعدة لا تحصي، و هي منبثّة في خلال مختلف أبواب الفقه و شتّي مسائلها، مما تتطرّق إليه الصحة و الفساد.

و نكتفي هاهنا بذكر نماذج من مجازيها الاختلافية التي وقع الكلام فيها بين الأعلام.

فمن هذه الموارد ما جاء في كلام الشيخ و ناقش في ترتّب لوازم أصالة الصحة فيها. و

هذه الموارد ثلاثة.

أحدها: ما إذا شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير هل وقع علي عين من أعيان تركة الميت، أو ما لا يملك كالخمر و الخنزير؟

فقال الشيخ إنّه لا يحكم بخروج تلك العين من التركة أو بكونها مما يملك بأصالة الصحة البيع؛ نظرا إلي كون ذلك من لوازمها العادية، بل المحكّم هو استصحاب بقاء تركة الميت علي ملكه.

و قال بعض الأعلام: إنّ الحكم بعدم خروج تلك العين من التركة في المقام لا يكون لأجل عدم حجية مثبتات أصالة الصحة، بل إنما هو لعدم جريانها؛ لأجل عدم إحراز قابلية المورد.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 71

و يرد علي هذا العلم ما قلناه في البحث السابق، من كفاية إحراز القابلية العرفيّة للمورد في جريان أصالة الصحة و حجيتها؛ نظرا إلي جريان سيرة المتشرعة. و لا ريب في قابلية تركة الميت و الخمر و الخنزير للبيع و الشراء في عرف العقلاء، و إنّما الشك في قابليتها الشرعية. و سيرة المتشرعة جارية علي أصالة الصحة عند الشك في قابلية المورد شرعا؛ نظرا إلي رجوعه في الحقيقة إلي الشك في تحقق بعض شرائط صحة العمل. بل تجري قاعدة اليد حينئذ، كما تجري عند احتمال كون المبيع مغصوبا أو سرقة؛ نظرا إلي عدم الفرق بين الموارد من جهة الشك في قابليتها شرعا.

ثانيها: ما إذا اختلف الموجر و المستأجر. فقال الموجر: آجرتك الدار كلّ شهر بكذا. و قال المستأجر: آجرتني سنة بكذا. فوقع الكلام في تقديم قول أيّهما. فربما يقال بتقديم قول المستأجر بدليل أصالة الصحة و ذلك للعلم بوقوع الاجارة علي ما يدعيه المستأجر؛ نظرا إلي فساد الاجارة علي النحو الذي يدّعيه الموجر.

و قد اشكل العلامة في

تقديم قول المستأجر و وجّه ذلك بأن كون منافع الدار للمستأجر في هذه السنة لازم عقلي لأصالة الصحة و انها ليست بحجة في لوازمها العقلي، فاستشهد الشيخ الأعظم بكلام العلامة في المقام.

و لمّا تبتني دعوي العلامة علي القول بفساد الاجارة علي النحو الذي يدعيه الموجر، فينبغي التكلّم أولا: في صحة الاجارة فيما إذا قال الموجر:

آجرتك الدار كلّ شهر بدرهم. و ثانيا: في حكم الاختلاف المزبور.

أما صحة الاجارة بالصيغة المزبورة فالمشهور فساد الاجارة؛ نظرا إلي عدم تعيين المدّة بذلك. و هو الظاهر: لما سيأتي بيانه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 72

و قد ذهب بعض إلي صحتها بالنسبة إلي الشهر الأوّل و فسادها بالنسبة إلي ساير الشهور.

أما فسادها في ساير الشهر فلعدم تعيين المدّة، مضافا إلي اختلاف الشهور كثيرا في الاجرة، خصوصا بالنسبة إلي الفصول و لا سيّما في الأماكن المتبرّكة للزائرين.

أما صحتها بالنسبة إلي الشهر الأوّل فلانحلال كل عقد لبّا إلي عقود متعددة بتعدّد المتعلّق. فقوله: آجرتك الدار كل شهر بدرهم، ينحلّ إلي إجارات متعددة بحسب الشهور. و هذا من قبيل التبعض في الصفقة ببيع ما يملك و لا يملك معا، و مالين أحدهما للبائع و الآخر للغير و لم يمضه. فكيف هناك ينحلّ العقد إلي عقدين، أحدهما صحيح و الآخر باطل؟ فكذلك في المقام تصح الاجارة في الشهر الأوّل دون غيره من الشهور.

و فيه: أنه لا تتعيّن مدّة الاجارة بهذه الصيغة؛ لكلّيتها، إذ الاجرة جعلت حينئذ بازاء طبيعي الشهر من دون تعيين أمد الاجارة، و إنّما الدخيل في صحة الاجارة هو تعيين مدّة الاجارة مبدء و أمدا.

و ذلك لدلالة صحيح أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن أرض

يريد رجل أن يتقبّلها فأي وجوه القبالة أحلّ؟ قال عليه السّلام: يتقبّل الأرض من أربابها بشي ء معلوم إلي سنين مسمّاة فيعمر و يؤدّي الخراج» «1»

نعم لو قال مثلا: «آجرتك شهرا بدرهم فان زادت فبحسابه تصح في خصوص الشهر الأوّل لتعيين المبدأ و المنتهي.

و أما الاجمال لو كان موجبا للتعيين فلا بد من صحة الاجارة في

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 13، ص 214، ب 18 من المزارعة و المساقاة، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 73

غير الشهر الأوّل أيضا فلا وجه للتفصيل بين الشهر الأوّل و غيره، كما في كلام هذا العلم. «1»

أما حكم الاختلاف فالأقوي عدم تقديم قول المستأجر؛ لأنّ مجري الايجاب- و هو الموجر- يعترف باجرائه صيغة الايجاب علي نحو نعلم بطلانه، و أصالة الصحة انما تجري فيما إذا لم يعترف الفاعل ببطلان فعله.

و أمّا لو اتفق الموجر و المستأجر علي صحة النحو الذي أجراه الموجر لا يقع جريان اصالة الصحة في المقام؛ حيث إنّ جريانها لا يثبت شيئا من الدعويين لملائمتهما مع الصحة، و عليه فلا مناص حينئذ من الرجوع إلي موازين القضاء، و لمّا كان الموجر هو المنكر بلحاظ كون إنشاء الصيغة و ايجاب الاجارة فعله و يدّعي عليه المستأجر، فعلي فرض عدم إقامة البينة من جانب المستأجر يتعين علي الموجر الحلف و مع نكوله عن اليمين يتحالفان و يحكم القاضي باجرة المثل.

ثالثها: ما إذا اختلف الموجر و المستأجر في تعيين المدّة أو الاجرة فادعي المستأجر التعيين و أنكره الموجر، فهل يقدم قول المستأجر لأصالة الصحة؛ نظرا إلي أخذ تعيين المدّة و الاجرة في صحة الاجارة؟

فأشكل الشيخ الأنصاري علي تقديم قول المستأجر في المقام؛

لعدم حجية مثبتات أصالة الصحة؛ حيث

إنّ الحكم بالتعيين من لوازم الصحة، و حكم بتقديم قوله ما لم يتضمّن دعوي ما هو خارج عن نطاق أصالة الصحة، و نقله عن جامع المقاصد. و ذلك بأن يدّعي الاجرة بأقلّ اجرة المثل حيث إنّه يدعي حينئذ في الحقيقة شيئا زائدا عن مقتضي

______________________________

(1) و هو السيد الخوئي في مصباح الاصول: ج 3، ص 335.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 74

الصحة علي الموجر و لا تثبته أصالة الصحة.

و ردّه المحقق النائيني بأن ضمان اجرة المثل ثابت علي أيّ حال سواء صحّت الاجارة أم فسدت. أما علي فرض صحتها فواضح، و أما علي فرض فسادها فلقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

و أجاب عنه بعض الأعلام «1» بأنّ ما قال به المحقق المزبور انّما يتمّ إذا كان الاختلاف بعد انقضاء مدّة الاجارة، و أما اذا كان في أثنائها فتثمر أصالة الصحة في ترتب آثار العقد الصحيح حينئذ، كعدم جواز مطالبة العين للموجر و جواز الانتفاع منها للمستأجر.

و مقتضي التحقيق عدم جريان أصالة الصحة.

و ذلك لا لعدم حجيتها في مثبتاتها و لوازمها؛ حيث إنّ تعيين المدّة و الاجرة من شرائط الصحة لا من اللوازم. بل إنّما هي لا تجري في المقام لفرض إعلام الفاعل- و هو مجري الصيغة- كيفية فعله؛ حيث يعترف باجراء الصيغة بلا تعيين المدّة و الاجرة. و إنّ أصالة الصحة إنّما تجري فيما إذا لم يعترف الفاعل بفساد فعله. فلا مناص في مثل المقام من العمل بموازين القضاء. و لو لم ترتفع المخاصمة بذلك فلا مناص من الحكم بالفسخ و ضمان اجرة المثل.

و منها: ما إذا مات الوصي بعد قبضه اجرة الاستيجار للحج، فشك في أنه هل صرفها في مورد الاجارة أم

لا؟

و قد فصّل في العروة «2» بينما لو كان المال الموصي به موجودا عند

______________________________

(1) مصباح الاصول: ج 3، ص 337.

(2) العروة الوثقي: المسألة السادسة عشر من الوصية بالحج.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 75

الوصي و بينما لو لم يكن موجودا عنده.

فحكم علي الأوّل بالضمان و عدم وقوع الاستيجار، و إن احتمل العمل الاستيجاري بمال آخر لشخصه. و وجّه ذلك بأصالة بقاء ذلك المال في ملك الميت.

و أفتي علي الثاني بصحة الاجارة إذا كانت تلك المدة المتخلّلة بين موت الميت و موت الوصي قابلة للاستيجار، و كان الواجب فوريا أو مضيّقا. و وجّه ذلك بأصالة صحة تصرّفه في المال؛ لأنّ عدم بقائه عنده دليل علي تصرّفه فيحكم بصحته. و مقتضاه إتيانه بالاستيجار صحيحا.

و فيه أولا: أنّ صدور عمل الاستيجار مشكوك فيه. و إنّ أصالة صحة التصرف في المال لا تثبت أصل تحقق الاستيجار. و ذلك لأنّ تحقق العمل الاستيجاري من اللوازم العادية للتصرّف الصحيح في المال.

و ثانيا: إنّ جريانها فرع إحراز صدور الاستيجار من الوصي، لما سبق من اعتبار عدم إحراز أصل الاستيجار.

و منها: ما إذا شك في القبض في المجلس في بيع الصرف. فقد يقال: إنّ البناء علي صحة العقد حينئذ لا يثبت وقوع القبض في المجلس، الذي هو شرط صحة المعاملة و وقوع النقل و الانتقال شرعا.

و فيه: أنّه بعد إحراز عنوان المعاملة و تحققه في نظر العرف تجري أصالة الصحة، و كان الشك في صحة العقد لاحتمال فقدان ما هو شرط في صحته شرعا، كالقبض في المجلس في بيع الصرف و لا شك أنّ القبض في المجلس تعبّدا و يحكم بصحة المعاملة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص:

76

و منها: ما ذكره الشيخ في الفرائد «1» و المحقق الخراساني في الحاشية. «2»

و هو أنه لو علم بصدور بيع العين المرهونة من المالك الراهن، و أيضا برجوع المرتهن عن إذنه، و لكن شك في المتقدّم منهما، فلو كان الرجوع متأخرا عن البيع صح البيع، و لو كان متقدما عليه يبطل البيع. فهل تجري هاهنا أصالة الصحة في البيع أم لا؟

مقتضي التحقيق: أنّه لا مجال لأصالة الصحة في المقام؛ نظرا إلي استصحاب الاذن المعلوم صدوره قبل البيع. و ذلك لأنّ الشك حسب الفرض إنما هو في المتقدّم من الرجوع و البيع، و إنّ أصالة عدم تقدّم كل واحد منهما يتساقطان بالتعارض و يحكم ببقاء الاذن الثابت سابقا بالاستصحاب، و يثبت بذلك صدور البيع عن إذن المرتهن. فلا تصل النوبة إلي أصالة الصحة.

هذه نبذة من موارد الاختلاف في جريان أصالة الصحة. و أما مواردها الاتفاقية فكثيرة، بل من تتبع في الفقه يجد المسائل يجد المسائل الفقهية في مختلف أبواب مشحونة من مجاري هذه القاعدة و هي كل فعل صدر من الغير و تتطرّق فيه الصحة و الفساد، و شك في صحته.

و أما الاعتقادات فلا ريب في عدم كونها مجري هذا الأصل؛ لوضوح أنّ موضوع هذه القاعدة فعل الغير و ليست الاعتقادات من الأفعال، كما أنّ جريانها في الاعتقادات خلاف ما هو المرتكز من سيرة العقلاء.

______________________________

(1) فرائد الاصول: ج 2، ص 726.

(2) حاشية الفرائد: ج 4، ص 663.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 77

حال هذه القاعدة مع معارضة ساير الأدلة

يقع الكلام تارة: في حال هذه القاعدة مع معارضة الأمارات، و أخري:

في حالها مع ساير الاصول.

أما حالها مع الأمارات فلا ريب في تقدّم الأمارات عليها؛ لأنّها أصل و اخذ في

موضوعها الشك. و إنّ الشك يرتفع بقيام الأمارة، فهي واردة علي أصالة الصحة، كورود ساير الأمارات علي الاصول.

و أما حالها مع الاستصحاب عند المعارضة. فلا إشكال في تقدم أصالة الصحة علي الاستصحاب الحكمي.

و ذلك لقيام السيرة و لزوم اللغوية؛ إذ ما من مورد من مجاري أصالة الصحّة إلّا يجري فيه الاستصحاب الحكمي فلا كلام في ذلك.

و إنّما الكلام في تقدمها علي الاستصحاب الموضوعي.

و يستفاد من كلام بعض تقدّمها علي الاستصحاب الموضوعي، كما عن السيد الامام الراحل.

و ذهب بعض إلي عكس ذلك، كالسيد الخوئي.

و اختار ثالث إلي دوران ذلك مدار كونها من الأمارات و الاستصحاب من الأصول فتقدّم عليه، و لو كان الأمر بالعكس فيقدّم الاستصحاب، كما اختار ذلك المحقق النائيني.

و ينبغي تحرير كلام الأعلام في المقام ثم بيان مقتضي التحقيق. أما السيد الامام الراحل قدّس سرّه فحاصل كلامه:

أنّه لا إشكال في تقدّم أصالة الصحة علي استصحاب الحكم، و كذا علي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 78

استصحاب الموضوع علي التحقيق؛ إذ تبتني حجيتها علي بناء العقلاء، لا علي تأسيس الشارع.

و لا يصلح دليل الاستصحاب- مثل قوله: «و لا تنقض اليقين بالشك» - لردع بنائهم؛ لأنّهم في العمل بأصالة الصحة و ترتيب آثار الصحة علي عمل الغير لا التفات لهم إلي الشك، بل يرتّبون آثار الصحة علي عمل الغير عند مطلق الجهل. و حيث أخذ الشك في موضوع دليل الاستصحاب، و ليس مصب أصالة الصحة عند العقلاء في مورد الشك، فلا يصلح دليل الاستصحاب لردع سيرة العقلاء في العمل بأصالة الصحة.

و لذا تري الأصحاب كانوا يعملون بهذا الأصل، مع إلقاء كبريات الاستصحاب إليهم من أئمتهم عليهم السّلام، بل لم يخطر ببالهم كون تلك الكبريات

مناقضة لأصالة الصحة: فلذا لم يسألوا عن ذلك. و هذا يكشف عن أنهم كانوا كسائر العقلاء يرون أصالة الصحة خارجة عن كبري نقض اليقين بالشك، فلم يروا بينها و بين الاستصحاب مساسا و لا تنافيا. و عليه فما قيل من حكومتها علي الاستصحاب أو تخصيص دليله بها في غير محلّه. هذا محصل كلام السيد الامام الراحل قدّس سرّه.

و فيه: أنّ عدم أخذ الشك في موضوع أصالة الصحة و موردها في سيرة العقلاء أوّل الكلام، بل الظاهر المرتكز في الذهن من سيرتهم أنّهم يرتّبون آثار الصحة علي عمل الغير عند الشك في صحته؛ حيث لا معني لحمل فعل الغير علي الصحة و لا البناء علي صحته، إلّا بعد الشك و التردّد فيها، و لا أقلّ من عدم إحراز قيام السيرة علي أصالة الصحة بهذا النطاق الواسع.

فالتحقيق عدم الفرق بين أصالة الصحة و بين الاستصحاب من جهة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 79

أخذ الشك في موضوعهما. و إنّما الفرق بينهما في كون الشك في مورد الاستصحاب مسبوقا بالحالة السابقة دون أصالة الصحة، و أنّ أصالة الصحة إنّما تجري في عمل الغير و لكن الاستصحاب يجري في عمل الشاك نفسه أيضا، مع عدم اختصاصه بصحة الفعل و فساده، بل يجري في الموضوعات الخارجية و أحكامها و في غير الصحة من الأحكام.

و قد حكم بعض الأعلام «1» بتقدّم الاستصحاب الموضوعي علي أصالة الصحة؛ نظرا إلي رجوع الشك في موارد جريان الاستصحاب الموضوعي دائما إلي الشك في قابلية الفاعل أو المورد.

و حيث يشترط في جريان أصالة الصحة إحراز قابلية الفاعل و المورد فلا تجري أصالة الصحة في نفسه مع قطع النظر عن جريان الاستصحاب، مثال ذلك ما

لو شكّ في صحة بيع لكون المبيع خمرا سابقا، و شكّ في انقلابه خلّا حين البيع، أو شكّ في صحة بيع للشك في بلوغ أحد المتبايعين.

فقال هذا العلم: لا إشكال في جريان الاستصحاب الموضوعي، و هو استصحاب عدم انقلاب الخمر خلّا، و استصحاب عدم كون من شكّ في بلوغه بالغا في المثال. و ذلك لا لحكومة الاستصحاب الموضوعي أو وروده علي الاستصحاب الحكمي، بل لأجل عدم المقتضي لجريان أصالة الصحة.

و السر في ذلك عدم إحراز قيام سيرة العقلاء علي حمل فعل الغير علي الصحة عند الشك في قابلية الفاعل أو المورد، و إلّا فلو جرت السيرة علي الحمل علي الصحة فلا مناص من تقديم أصالة الصحة علي الاستصحاب؛

______________________________

(1) مصباح الاصول: ح 3، ص 337- 339.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 80

لأنّ تحقق السيرة يكون في حكم النصّ المخصّص لدليل الاستصحاب، بلا فرق بين كون الاستصحاب أو أصالة الصحة من الاصول أو من الأمارات.

بل حتي لو فرضنا كون أصالة الصحة من الأمارات و الاستصحاب من الاصول، فمع ذلك يقدّم الاستصحاب في مفروض الكلام؛ إذ مع عدم إحراز قيام السيرة علي العمل بأصالة الصحة عند الشك في قابلية الفاعل أو المورد، لا أمارية لها حينئذ.

و بذلك أشكل علي أستاذه المحقق النائيني، حيث جعل المناط في تقديم كلّ من الاستصحاب أو أصالة الصحة كون أحدهما من الأمارات و الآخر من الاصول، فحكم بتقدّم الأمارة علي الأصل، و أطال الكلام في تقديم أيهما علي الآخر علي القول بكون كليهما من الاصول أو من الأمارات.

و فيه أولا: أنه لو رجع الشك في مورد الاستصحاب الموضوعي إلي الشك في قابلية الفاعل أو قابلية المورد عرفا صحّ كلام هذا

العلم. أما لو رجع إلي الشك في القابلية شرعا، فلا يصح.

و ذلك لما قلناه سابقا من عدم اشتراط إحراز قابلية المورد شرعا في جريان أصالة الصحة، بل تجري حتي عند الشك فيها، كما لو شكّ في كون المبيع مما يملك شرعا فتجري أصالة الصحة؛ لعدم رجوع الشك حينئذ إلي الشك في تحقق أصل عنوان المعاملة، بخلاف ما لو كان الشك في القابلية العرفية.

و عليه فتجري أصالة الصحة أيضا حينئذ كالاستصحاب، و يقع التعارض بينهما، و تقدّم أصالة الصحة لجريان السيرة عليها؛ نظرا إلي عدم سراية الشك إلي اصل عنوان المعاملة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 81

و أما تقديم الاستصحاب الموضوعي؛ لأنه أصل سببي و أصالة الصحة أصل مسبّبي، لا وجه له هنا. و ذلك لفرض عدم سراية الشك إلي أصل عنوان المعاملة، و بعد إحراز تحققه بالوجدان، يقع الشك في صحة المعاملة لاحتمال فقد شرط من شروطه فتجري أصالة الصحة، لما قلنا من جريان السيرة.

نعم لو شك في موضوع حكم- كما لو شك في صدور الحدث من المصلي قبل الورود في الصلاة بعد ما توضّأ، فشكّ لذلك في صحة صلاته- قد يتوهم تقدم الاستصحاب؛ لأنه أصل سببي، أو شك في انقلاب الخمر خلّا حين بيعه، فيقال بعدم جريان اصالة الصحة؛ لأنه أصل مسببي و الاستصحاب اصل سببي؛ حيث إنّ صحة المعاملة مسبّبة عن انقلاب الخمر خلّا؛ لأنها عارضة علي بيع ما يملك شرعا، و هو مسبّب عن انقلاب الخمر خلّا. و يرجع ذلك إلي حكومة دليل الاستصحاب علي أصالة الصحة حينئذ كحكومة أيّ أصل سببيّ علي الأصل المسبّبي.

و لكنه غير وجيه؛ نظرا إلي قيام السيرة علي جريان أصالة الصحة مطلقا ما لم

يرجع إلي الشك في تحقق أصل العمل أو قابلية الفاعل. و أما تقدم الأصل السببي علي الأصل المسببي فهو صحيح، لكن لا في فعل الغير؛ نظرا إلي قيام السيرة علي جريان أصالة الصحة فيه، بل في غيره كفعل نفس الشاك و عند الشك في تحقق كل شي ء ذي حكم أو أثر شرعي أو في حكمه، سواء كان لفقدان شرط أو وجود مانع أو في تحقق أصل الموضوع.

فمقتضي التحقيق في هذه الموارد جريان أصالة الصحة. و هي ما إذا شك في صحة فعل الغير لاحتمال فقدان شرط أو وجود مانع ما لم يرجع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 82

إلي الشك في تحقق أصل العمل أو إلي قابلية الفاعل أو المورد عرفا.

و ثانيا: لا نسلّم رجوع الشك في موارد الاستصحاب الموضوعي دائما إلي الشك في قابلية المورد أو الفاعل؛ لوضوح كون الشك كثيرا في شرائط و قيود ليست من الأركان المقوّمة من العمل العبادي أو المعاملي فلا محالة يقع التعارض حينئذ بين أصالة الصحة و الاستصحاب في هذه الموارد.

فتقدّم أصالة الصحة في جميع الموارد، حتي ما إذا كان من قبيل المعارضة بين الأصل السببي و المسبّبي.

و ذلك أولا: لجريان السيرة؛ إلّا ما إذا كان الشك في تحقق أصل عنوان المعاملة أو في مقوّماته.

و ثانيا: للزوم لغوية دليل تشريع أصالة الصحة؛ نظرا إلي جريان الاستصحاب في أغلب موارد أصالة الصحة لو لا كلّها؛ إذ الشك في صحة أيّ عمل إنّما ينشأ دائما من احتمال فقدان شرط أو ايجاد مانع و جميع ذلك مسبوق بالحالة السابقة لأنّها أمور حادثة.

مقتضي التحقيق: تقدّم أصالة الصحة علي استصحاب الحكم.

و ذلك لقيام السيرة علي حمل فعل الغير علي الصحة مطلقا.

و لو كانت مسبوقة بالعدم، قبل تحقق الفعل. هذا مع أنه لو لم تجر أصالة الصحة في جميع موارد الاستصحاب للزم اللغوية إذ ما من مورد من مجاري أصالة الصحة، إلّا و يجري فيه الاستصحاب، إما استصحاب العدم الأزلي أو استصحاب العدم النعتي.

و أما الاستصحاب الموضوعي فيفصّل فيه بين ما لو رجع الشك في الموضوع إلي الشك في قابلية الفاعل أو المورد عرفا، فيقدّم الاستصحاب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 83

حينئذ؛ نظرا إلي عدم جريان أصالة الصحة لقصور المقتضي، و بينما لو رجع الشك إلي الشك في قابليتهما شرعا، بأن كان الشك في الشرائط و القيود غير المقوّمة لعنوان العمل فتقدّم أصالة الصحة حينئذ، و إن كان من قبيل التعارض بين الأصل السببي و المسبّبي، من دون فرق بين أبواب العبادات و المعاملات.

هذا حال الاستصحاب.

أما أصالتي الطهارة و الحلية فلا مساس لهما بأصالة الصحة؛ إذ هي تجري في حكم العمل، و لكنهما تجريان في حكم الأشياء و كذا البراءة؛ إذ هي عند الشك في أصل التكليف، و لكن مجري أصالة الصحة هو الشك في حكم المكلّف به بعد ثبوت أصل التكليف، كما أنّ أصالة الاحتياط تجري في فعل النفس، لا فعل الغير، و كذا أصالة التخيير.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 85

قاعدة الاضطرار

اشارة

1- منصّة قاعدة الاضطرار 2- مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- حالها مع معارضة ساير الأدلّة 5- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 87

منصّة قاعدة الاضطرار

إنّ ما جعله اللّه تعالي من الأحكام و القوانين في شريعة الإسلام، لا غرض له تعالي من تشريعه، إلّا رشد الانسان و كماله و فلاحه، و أن يعيش بسلامة و نشاط و راحة و رغدة مبتعدا عن الآثام و السيئات و القبائح، لا لأجل التضييق و تحميل ما هو خارج عن حدّ طاقة البشر. و كيف يقرّر عليهم أحكاما محرجة شاقّة، و هو أرحم الراحمين، بل أرأف بالانسان من والديه؟!

كما قال تعالي: «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «1».

و «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «2».

و «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ». «3».

و «مٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ». «4»

و من هنا سمّي الدين الاسلامي بالشريعة السمحة السهلة، رغم ما يدعيه المخالفون و يفترونه علي الإسلام بأنّه دين التضييق و التعصّب و المشقة.

و هذه القاعدة تثبت لنا أنّ للرفق و اللين و السهولة و الراحة، منصّة

______________________________

(1) البقرة: 185.

(2) الحج: 78.

(3) البقرة: 173.

(4) المائدة: 6.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 88

مستحكمة في متن الشريعة الاسلامية و أنّه لا موقف للضيق و الصعوبة فيها. فهذه القاعدة ذات أهمية خطيرة من هذا المنظر.

مفاد القاعدة

هذه القاعدة تفيد نفي أيّ حكم موجب للمشقة و الاضطرار. بمعني ارتفاعه عند ما عرض الاضطرار.

بيان ذلك: أنّ كلّ حكم مجعول في الإسلام له حالتان.

إحداهما: الحالة المتعارفة المعتدلة، بأن لا يوجب العمل به ضيقا و مشقة علي فاعله.

ثانيتهما: الحالة غير المتعارفة الخارجة عن مقتضي العادة، بأن يوجب العمل به ضيقا و صعوبة و مشقة لا تتحمل عادة. و مفاد هذه القاعدة رفع الحكم الإلزامي في هذه الصورة، وجوبا كان

ذلك الحكم أو حرمة.

و هل يكون رفع الحكم عند الضرورة و الاضطرار علي نحو الرخصة أو العزيمة؟

فالمشهور أنّ سقوطه علي نحو الرخصة، إلّا إذا كان ضرريا أو كان فيه خوف الهلاك، فلا إشكال في كون رفع الحكم الموجب لذلك علي نحو العزيمة، فيحرم العمل به.

و أما إذا لم يبلغ الاضطرار إلي حدّ الضرر البالغ أو خوف الهلاك، و إن كان موجبا للمشقة الشديدة التي لا تتحمّل عادة، فالمشهور أنّ ارتفاع الحكم الموجب لذلك علي نحو الرخصة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 89

و خالفهم السيد الامام الراحل «1» في مسائل التيمّم بأنّه علي نحو العزيمة.

و وجّه ذلك بأنّ العمل بالحكم الحرجي و تحمل المشقة و الحرج مخالفة لما أراده اللّه تعالي بالعباد من اليسر و التزاما بما لم يشرّعه و لم يجعله في الشريعة، كما أخبر تعالي عن ذلك بقوله: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «2»

و أنّه ردّ هدية اللّه تعالي. و استشهد لذلك ببعض النصوص الدالّة علي أنّ ذلك ردّ هديته تعالي و جسارة بساحته، كما أنّ ردّ هدية الإخوان المؤمنين هتك و إهانة بشأنهم.

و هذا الكلام منه قدّس سرّه و إن كان حسنا جميلا و مساعدا للاعتبار في نفسه، إلّا أنّ الإلزام و الايجاب علي مخالفة الحكم الأوّلي الحرجي و العقاب عليه مخالف لما هو مقتضي الامتنان من رفع الالزام و الايجاب عن المكلف و جعله في راحة و فسحة من ذلك، بل ذلك إيقاعه في محذور آخر.

و أما ما ورد في بعض النصوص من تشبيه ذلك بردّ الهدية يمكن حمله علي مخالفة الحكم الأولي بقصد التشريع أو عدم الاعتناء.

و علي أيّ حال لا إشكال في إفادة هذه القاعدة

ارتفاع الحكم التكليفي عند الاضطرار. و هل تفيد ارتفاع الحكم الوضعي، بأن تنفي ضمان المال المتصرّف فيه عند الاضطرار؟

و التحقيق عدم ارتفاع الضمان؛ لعدم دخل له في رفع الاضطرار؛ حيث لا منافاة بين رفع الاضطرار بالتصرف في المال المضطر إليه و بين

______________________________

(1) كتاب الطهارة/ طبع مطبعة مهر: ج 2، ص 57- 60.

(2) الحج: 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 90

ثبوت ضمانه الموجب لردّ المال إلي مالكه بعد ارتفاع الاضطرار عند التمكن.

ثم إنّ هاهنا نكات ينبغي التنبيه عليها في تحرير مفاد هذه القاعدة.

الاولي: يعبّر عن هذه القاعدة كثيرا بأنّ الضرورات تبيح المحظورات.

و هذا التعبير يتراءي كثيرا في كلمات الفقهاء، كما سيأتي في التطبيقات الفقهية. فليس المراد منه قاعدة غير هذه القاعدة، كما لعلّه قد يتوهم.

الثانية: أنّ هذه القاعدة لا تفيد رفع أصل التكليف بالاضطرار، بل إنما تفيد ارتفاع تنجّزه. و ذلك لأنّ الذي مخالف للامتنان هو تنجز الحكم الأولي عند الاضطرار. و من هنا لو ارتفع الاضطرار يعود التكليف إلي حاله الأوّل و يصير منجّزا علي المكلّف.

الثالثة: أنّ رفع الحكم الأوّلي إنما يكون ما دام الاضطرار، فيتنجز بمجرد ارتفاعه. فلا يجوز مخالفة الحكم الأولي أكثر من قدر الاضطرار و مقتضي الضرورة. و هذا مراد الفقهاء من قولهم «الضرورات تتقدّر بقدرها»، كما ستعرف دلالة بعض نصوص المقام علي هذا المعني.

الرابعة: أنّ الخوف علي هلاك النفس أو علي المرض أو علي اشتداده، عنوان مستقل آخر، غير ما هو المقصود من الاضطرار. و قد دلّت علي حرمة فعل ما يخاف به علي النفس أو علي المرض نصوص بالخصوص. و إن كان ربما يتحدان في المصداق. و لكن لا منافاة في ثبوت الحكم الثانوي للمضطّر إليه بدليلين

أو أدلّة عديدة. و الحقّ أنّ ذلك نوع اضطرار أيضا. و لكن الحكم الثانوي ثابت لموضوعه بعنوان آخر أيضا لا بعنوان الاضطرار فقط.

الخامسة: أنّ غير الخوف علي هلاك النفس المحترمة من عناوين

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 91

الاضطرار لا يجوّز ارتكاب ما يقطع بعدم رضي الشارع بوقوعه بأيّ وجه، كاللواط و الزنا و عقوق الوالدين و نحو ذلك من المعاصي الكبيرة الخطيرة في نظر الشارع الأقدس. و سيأتي كلام في ذلك في تحقيق نصوص الاضطرار.

السادسة: الفرق بين الاضطرار و بين الإكراه أنّ الإكراه يتحقق بالتهديد اللفظي، بأن يقول المكره (بالكسر) مثلا لشخص لو لم تفعل كذا لقتلتك أو ضربتك ضربا شديدا، أو احرق بيتك أو أهتك عرضك، و نحو ذلك من ألفاظ التهديد.

و لكن الاضطرار ليس بمجرّد اللفظ، بل إنّما بوقوع الشخص في مشقة شديدة و تعب غير قابل للتحمل عادة، أو في مكان أو وضع يخاف فيه علي العرض أو المال أو النفس. و مع ذلك ليس في حدّ القهر الغالب السالب للاختيار، فاذا كان كذلك يعبّر عنه بالقهر و الإجبار.

السابعة: هل المراد من الاضطرار هو ما كان مصداقا للاضطرار و الضرورة في نظر نوع الناس و أكثرهم، أو الملاك في ذلك نظر شخص المضطر؟

و الجواب أنّ المعيار في ذلك نظر النوع.

فما كان من المشقة يتحمّل عادة أو لا يصدق عليه الاضطرار و الضرورة الشديدة البالغة حدّ الاضطرار في نظر أهل العرف، لا يرتفع به الحكم الأوّلي.

و لكن هذا أمر باطني و كل إنسان أبصر بنفسه من غيره. فاذا بلغت المشقة في نظره فيما بينه و بين اللّه إلي حدّ لا يتحمّلها أهل العرف و غالب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية

الأساسية، ج 1، ص: 92

الناس، يتحقق بذلك الاضطرار الرافع للحكم الأوّلي. و علي أيّ حال فالمعيار في ذلك بلوغ المشقة إلي هذا الحد أو إحساس الخوف علي النفس.

و تشخيص مصاديق هذا الملاك موكول إلي صاحب الضرورة و الاضطرار، كما أشير إلي ذلك في بعض النصوص الآتية.

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بوجوه.

الأوّل: اتفاق جميع الفقهاء من العامة و الخاصّة

و تسالمهم علي ارتفاع الحكم الأوّلي بالاضطرار. و لا مخالف لذلك من بينهم.

و أما الاجماع بمعناه المصطلح الكاشف عن رأي المعصوم تعبدا، فلا يمكن دعواه؛ نظرا إلي استناد الفقهاء لذلك إلي نصوص الكتاب و السنة، فهو مدركي.

الثاني: العقل

الحاكم بقبح تحمّل المشقة الشديدة الخارجة عن حدّ تحمل الناس عادة؛ لما يري فيه من الظلم بالنفس و الجسم. و إنّ الظلم قبيح في نظر العقل بأنحائه، بلا فرق.

الثالث: الكتاب:

دلّت علي هذه القاعدة عدة من الآيات القرآنية.

منها: قوله تعالي: «إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّٰهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «1»

و منها: قوله تعالي: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «2»

______________________________

(1) البقرة: 173، و النحل: 115.

(2) المائدة: 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 93

و منها: قوله تعالي:

«قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَليٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». «1»

الرابع: السنة:

و قد دلت علي هذه القاعدة عدّة نصوص.

منها: موثقة سماعة المروية بطرق عديدة عن الصادق عليه السّلام:

«و ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه». «2»

و منها: ما دل علي جواز التقية عند الضرورة و الاضطرار.

مثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«التقية في كل ضرورة، و صاحبها أعلم بها حين تنزل به» «3».

و ضمير الهاء في «صاحبها» يرجع إلي التقية ظاهرا؛ أي فاعل التقية أبصر علي نفسه من غيره بوجود الضرورة في مورد التقية إلي حدّ تجوّزها.

و نظيره صحيح معمّر بن يحيي بن سالم و محمد بن مسلم و زرارة، قالوا:

«سمعنا أبا جعفر عليه السّلام يقول: التقية في كلّ شي يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه له». «4»

هاتان الصحيحتان و ما شابههما و إن وردت في التقية، إلّا أنّه يمكن أن يستفاد منها جواز ارتكاب كلّ حرام عند الضرورة و الاضطرار، بتنقيح

______________________________

(1) الانعام: 143.

(2)

وسائل الشيعة: ج 4، ص 690، ب 1 من أبواب القيام، ح 6 و 7.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ص 468، ب 25 الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 1.

(4) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 94

الملاك القطعي؛ حيث لا خصوصية في تحليل الحرام المتّقي فيه، إلّا الضرورة و الاضطرار.

و منها: ما رواه الصدوق باسناده عن محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:

«قلت له: لم حرّم اللّه الخمر و الميتة و لحم الخنزير و الدّم؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالي لم يحرّم ذلك علي عباده و أحلّ لهم ما وراء ذلك من رغبة فيما أحل لهم و لا زهد فيما حرّمه عليهم، و لكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحلّه لهم و أباحه لهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه ثم أحلّه للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به» «1».

و منها: صحيح حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، و النسيان، و ما اكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه». «2»

و مثله مرفوعة النهدي. «3»

و منها: ما رواه العياشي في تفسيره بسنده عن الصادق عليه السّلام، قال:

«قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: رفعت عن أمتي أربع خصال: ما اضطروا إليه، و ما نسوا، و ما اكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا». «4»

و منها: صحيح إسماعيل الجعفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«سمعته يقول: وضع عن هذه الامة ست خصال: الخطاء،

و النسيان و ما استكرهوا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17، ص 2، ب 1 من الأطعمة المباحة، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 295، ب 56 جهاد النفس، ح 1.

(3) المصدر: ح 3.

(4) المصدر: ج 11، ص 470، ب 25 الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ح 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 95

عليه و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون و ما اضطروا إليه». «1»

و منها: ما ورد في الفقه الرضوي:

«و متي ما نسي بعضها، أو اضطرّ، أو به علّة تمنعه من الغسل، فلا إعادة عليه». «2»

و منها: صحيح الحلبي قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول و ليس معه ثوب غيره، قال: يصلي فيه إذا اضطرّ إليه». «3»

و منها: صحيح أحمد بن محمد بن يحيي، قال، قال الصادق عليه السّلام:

«من اضطرّ إلي الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتي يموت فهو كافر». «4»

هذه الصحيحة دلّت علي وجوب أكل ما اضطرّ إليه، إلّا أنها في مورد توقّف عليه حفظ النفس من الهلاك.

و أما قوله تعالي: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ» يحمل علي ما إذا لم يصل الاضطرار إلي حدّ الخوف علي هلاك النفس أو يقال أنّه ناظر إلي جهة ارتفاع الحرمة المدلول عليها في صدق الآية.

و منها: ما رواه الصدوق في العلل بأسانيده عن الرضا عليه السّلام قال:

«إنّا وجدنا أنّ ما أحلّ اللّه ففيه صلاح العباد و بقاؤهم و لهم إليه الحاجة. و وجدنا المحرّم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه و وجدناه مفسدا. ثم رأيناه تعالي قد أحلّ ما

______________________________

(1) المصدر: ج 16،

ص 144، ب 16، باب ان اليمين لا تنعقد في غضب و لا جبر ج 16، ص 144، ح 3.

(2) فقه الرضا: ص 83.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 167، ب 45 أبواب النجاسات، ح 7.

(4) وسائل الشيعة: ج 16، ص 389، ب 56 من الأطعمة و الأشربة، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 96

حرّم في وقت الحاجة إليه؛ لما فيه من الصلاح في ذلك الوقت، نظير ما أحلّ من الميتة و الدم و لحم الخنزير إذا اضطرّ إليها المضطر؛ لما في ذلك الوقت من الصلاح و العصمة و دفع الموت». «1»

و منها: مرسل عمرو بن سعيد عن بعض أصحابنا قال:

«أتت امرأة إلي عمر فقالت: يا أمير المؤمنين: إني فجرت فأقم فيّ حد اللّه، فأمر برجمها و كان علي عليه السّلام حاضرا، فقال له: سلها كيف فجرت؟ قالت: كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها رجلا أعرابيّا، فسألته الماء، فأبي علي أن يسقيني إلّا أن امكّنه من نفسي، فولّيت منه هاربة، فاشتدّ بي العطش حتي غارت عيناي و ذهب لساني، فلما بلغ منّي أتيته فسقاني، و وقع عليّ، فقال له عليّ عليه السّلام: هذه التي قال اللّه عز و جل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ، هذه غير باغية و لا عادية إليه، فخلّ سبيلها، فقال عمر: لو لا علي لهلك عمر». «2»

و منها: ما رواه المفيد في الارشاد قال:

«روي العامة و الخاصة أنّ امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها و ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها، و كانت ذات بعل. فقالت: اللهم إنّك تعلم أني

برية. فغضب عمر، و قال: و تجرح الشهود أيضا. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

ردّوها و اسألوها فلعل لها عذرا، فردّت و سئلت عن حالها فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت مع إبلي أهلي و حملت معي ماء، و لم يكن في إبلي لبن، و خرج معي خليطنا و كان في إبل له، فنفد مائي فاستسقيته فأبي أن يسقيني حتي امكنه من نفسي فأبيت، فلمّا كادت نفسي أن تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: الله أكبر فمن اضطر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 17، ص 34، ب 19 من الأطعمة المباحة، ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 18، ص 384، ب 18 من ابواب حدّ الزنا، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 97

غير باغ و لا عاد فلا إثم، فلمّا سمع عمر ذلك خلّي سبيلها». «1»

و في رواية اخري رواها الكليني بسنده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«جاءت امرأة إلي عمر فقالت: انّي زنيت فطهرني، فأمر بها أن ترجم فاخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: كيف زنيت؟ قالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد، فاستسقيت أعرابيا فأبي أن يسقيني إلّا أن امكّنه من نفسي، فلمّا أجهدني العطش و خفت علي نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: تزويج و ربّ الكعبة». «2»

و لأجل هذه الرواية حمل المشهور الخبرين السابقين علي صورة تراضي الطرفين بالمتعة أو بما يدل علي التزويج من اللفظ.

و قد أجاد صاحب الحدائق في تحقيق ذلك؛ و ينبغي نقل كلامه هاهنا بطوله؛ لما فيه من الفائدة. فانه قال- بعد ذكر هذه النصوص-: «و لم أقف علي من تكلم في هذين الخبرين

و ما هما عليه من الاختلاف في البين، إلّا المحدث المحسن الكاشاني في الوافي، و لا بأس بنقل كلامه بطوله، و إن طال به زمام الكلام لجودة محصوله.

قال في ذيل هذا الخبر- بعد أن أورده في أبواب الحدود في باب من أتي ما يوجب الحد لجهالة أو لضرورة- ما لفظه:

البغي الخيانة، و الظلم و العدوان التجاوز عن الحد و عن قدر الضرورة، و المجرور في «إليه» راجع إلي الفجور، و الظاهر من أمر عمر برجم المرأة بعد إقرارها بالفجور من اكتفائه بالمرة من دون سؤال عن كونها محصنة

______________________________

(1) المصدر: ح 8.

(2) وسائل الشيعة: ج 14، ص 471، ب 21 من ابواب المتعة، ح 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 98

أو غير محصنة، و ليس هذا من مثله ببعيد.

ثم المستفاد من هذا الحديث جواز الزنا إذا اضطر الانسان إليه بحيث يخاف علي نفسه التلف، إلّا أنّه ستأتي هذه القصة بعينها في باب إثبات المتعة من كتاب النكاح باسناد آخر و عبارة اخري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام و ليس في آخر قوله عليه السّلام هذه التي قال اللّه تعالي إلي آخر الحديث، بل قال عليه السّلام: فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: تزويج و رب الكعبة، و مفاده أنّه ليس ذلك بزنا و لا فجور مضطر إليه بل هو نكاح حلال و تزويج صحيح، و ذلك لحصول شرائط النكاح فيه من خلوها عن الزوج و عن ولاية أحد عليها، و رضاء الطرفين و وقوع اللفظ الدال علي النكاح و الانكاح فيه، و ذكر المهر و تعيّنه، فهو تزويج متعة و نكاح انقطاع، لا يحتاج إلي طلاق.

فان قيل: يشترط في صحة المتعة ذكر الاجل،

قلنا: قد ثبت أنّه يغني عنه ذكر المرة و المرتين، و الاطلاق يقتضي المرة فيقوم مقام ذكر الأجل.

إن قيل: أنها لم تعتقد حلها و إنما زعمت أنها زنت، قلنا: لعل الحد إنّما يجب علي الانسان إذا زني دون ما إذا زعم أنّه زني مع أنها كانت مضطرة إلي ما فعلت، فكل من الأمرين جاز أن يكون مسقطا للحد عنها، و لعل هذا هو الوجه في ورود الاعتذار عنها تارة بأنها ليست بزانية، و اخري بأنها كانت مضطرة للزنا، و التحقيق هو الأوّل، و لعل الثاني إن صح وروده فانما ورد علي التقية و المماشاة مع عمر و أصحابه.

و علي هذا فلا دلالة فيه علي جواز الزنا مع الاضطرار إليه.

إن قيل: إنّ القصة واحدة يستبعد وقوعها مرتين فما وجه اختلاف الفتيا فيها من مفت واحد في مجلس واحد؟

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 99

قلنا: الاعتماد فيها إنما هو علي رواية أبي عبد اللّه عليه السّلام دون رواية غيره، مع أنّ الحكم الذي في روايته عليه السّلام هو الصواب في المسألة كما دريت، و إن اريد تصحيح الاخري أيضا قيل: لعل أمير المؤمنين عليه السّلام: خاطب القوم فيها علانية علي جهة التقية بما يناسب قدر عقولهم و مبلغ ما عندهم من العلم، و خاطب أصحابه سرا بما وافق الحل و بما هم أهله فروي الثاني عنه أولاده عليهم السّلام، و الأوّل الأجناب، و العلم عند اللّه انتهي كلامه زيد مقامه.

أقول: الأظهر في الجواب عن السؤال الثاني أنّ اعتقاد الحل و عدمه لا مدخل له في صحة العقد إذا وقع مستكملا لشرائط الصحة، و العقد هنا كذلك كما اختاره، و من الجائز أن تكون المرأة

جاهلة بحلّ نكاح المتعة؛ لعدم اشتهارها يومئذ، و أنها علي مذهب عمر في تحريمها فاعتقدت كون ما وقع منها زنا يوجب الحد، فلذا اعترفت بذلك و طلبت إقامة الحد عليها، و الامام عليه السّلام أسقط الحد عنها لصحة النكاح كما في رواية الصادق عليه السّلام، أو لمكان الضرورة كما في الرواية الاخري، و سقوطه لمكان الضرورة غير بعيد.

فإنّ جملة من الأخبار دلّت علي أنّه ما من شي ء حرّمه اللّه، إلّا أباحه لمكان الضرورة، ففي موثقة سماعة قال، قال: إذا حلف الرجل تقية لم يضره- إلي أن قال- قال: ليس شي ء مما حرّم اللّه إلّا و قد أحله لمن اضطر إليه، و نحوه غيره من الأخبار المؤيّدة بالدليل العقلي أيضا.

بقي الكلام في اختلاف الخبرين في أنّ سقوط الحد هل هو لكونه نكاحا صحيحا، كما في رواية الصادق عليه السّلام أو لمكان الضرورة و أنّه كان زنا؟ و ما ذكره- رحمة اللّه عليه- في الجمع بين فتواه عليه السّلام في هذين الخبرين جيّد.

و يؤيّده أنّه عليه السّلام خاطب بهذا الجواب الذي في هذا الخبر عمر و أصحابه،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 100

و مذهب عمر تحريم المتعة فلم يصرح له بأنّ عدم الحد لصحة النكاح متعة، و إنّما صرح له بالاضطرار، و هو صحيح كما عرفت، فان الضرورات تبيح المحظورات، و أما خبر الصادق عليه السّلام فليس فيه دلالة علي مخاطبة عمر بذلك، و غاية ما يدل عليه أنه أخبر أمير المؤمنين عليه السّلام بذلك فسألها، فلما أخبرته القضية قال: «تزويج و رب الكعبة»، و ليس في الخبر أنها حدّت بعد ذلك أو لم تحد، و بلغ ذلك عمر أو لم يبلغه، بل الخبر

مجمل في ذلك». «1» انتهي كلام صاحب الحدائق.

و من النصوص الدالة علي هذه القاعدة: صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا، فقال: هو بمنزلة الضرورة يتيمّم، و لا أري أن يعود إلي هذه الأرض التي يوبق دينه». «2» الأصح «توبق» دينه.

و منها: صحيح عبد اللّه بن جعفر الحميري قال:

«كتبت إلي أبي الحسن عليه السّلام: روي جعلني اللّه فداك مواليك عن آبائك أنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله صلّي الفريضة علي راحلة في يوم مطير، و يصيبنا المطر و نحن في محاملنا و الأرض مبتلة و المطر يؤذي، فهل يجوز لنا يا سيدي أن نصلي في هذه الحال في محاملنا أو علي دوابّنا الفريضة إن شاء اللّه؟ فوقع عليه السّلام: يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة». «3» و الضرورة الشديدة و هي ما لا تتحمل عادة.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 24، ص 125، 127.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 973، ب 9 من أبواب التيمم، ح 9.

(3) وسائل الشيعة: ج 3، ص 237، ب 14 من أبواب القبلة، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 101

و منها: مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (عج):

«أنّه كتب إليه يسأله عن رجل يكون في محمله و الثلج كثير بقامة رجل، فيتخوف أن نزل الغوص فيه. و ربما يسقط الثلج و هو علي تلك الحال و لا يستوي له أن يلبّد شيئا منه؛ لكثرته و تهافته. هل يجوز أن يصلّي في المحمل الفريضة؟ فقد فعلنا ذلك أياما، فهل علينا في ذلك إعادة أم لا؟ فأجاب

لا بأس به عند الضرورة و الشدّة». «1»

و منها: صحيح الريان بن الصلت. قال:

«دخلت علي علي بن موسي الرضا عليه السّلام فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله، إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال عليه السّلام: قد علم اللّه كراهتي لذلك، فلما خيّرت بين قبول ذلك، و بين القتل اخترت القبول علي القتل، ويحهم أما علموا أنّ يوسف عليه السّلام كان نبيا رسولا. فلمّا دفعته الضرورة إلي تولّي خزائن العزيز، قال له:

اجْعَلْنِي عَليٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، و دفعتني الضرورة إلي قبول ذلك علي إكراه و إجبار بعد الاشراف علي الهلاك، علي أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه، فإلي اللّه المشتكي و هو المستعان». «2»

إلي غير ذلك من النصوص الدالة علي مفاد هذه القاعدة، و هي بالغة حد التواتر.

ثم إنّ هذه القاعدة لا إشكال في عدم كون مفادها حكما و لا أصلا و لا أمارة، كما هو واضح، بل إنما هي تفيد ارتفاع الحكم الأوّلي عند عروض الاضطرار و الضرورة.

______________________________

(1) المصدر: ص 239، ح 11.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 147، ب 48 من ابواب ما يكتسب به، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 102

حالها مع معارضة ساير الأدلّة

لا ريب في تقدّم هذه القاعدة علي ساير الأدلة و الاصول، كما لو اضطر إلي بيع مال الغير لإنقاذ نفسه أو إنقاذ نفس محترمة من الهلاك أو عند ما وقع في ساير مصاديق الاضطرار من المحاذير و الضرورات.

فيقع التعارض عند ذلك بين أدلّة حرمة التصرف في مال الغير و بين أدلّة هذه القاعدة، و لا إشكال في تقدّمها. و هل

النتيجة صحة البيع؟ فيه إشكال؛ نظرا إلي عدم منافاة بين ثبوت الضمان و بين ارتفاع الاضطرار بإباحة التصرف، و إلي أنّ إنشاء البيع و إجراء الصيغة إذا كان حلالا و مباحا و لو بالاضطرار يدخل في البيع الحلال المباح و تترتب بالمآل آثاره، كما هو الوجه في استفادة صحة البيع وضعا من قوله تعالي: «وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ». و ذلك فيما إذا توقف ارتفاع الضرورة علي بيع مال الغير و صرف ثمنه في رفع الاضطرار.

و علي أيّ حال وزان هذه القاعدة في مخالفة ساير الأدلة و معارضة ساير الأمارات وزان قاعدتي نفي الضرر و الحرج، فهي حاكمة علي أدلة الأحكام الأولية.

و لكن لا بد في تقديم هذه القاعدة علي ساير الأحكام الأولية أو بالعكس من مراعاة الأهم فالأهم. فما دام لم يبلغ الاضطرار إلي حدّ الخوف علي النفس لا يجوز تقديم هذه القاعدة علي ما يقطع بعدم رضي الشارع بوقوعه أو تركه و تعطيله بأيّ وجه، كالزنا و اللواط و تعطيل الحدود و عقوق الوالدين و نحوه.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 103

التطبيقات الفقهية

قد استند الفقهاء إلي هذه القاعدة في فروع عديدة من مختلف أبواب الفقه، و هي أكثر من أن تحصي، إلّا أنّا نكتفي بذكر نماذج من هذه الفروع.

منها: ما صرّح به جملة من الأصحاب من جواز إخراج المستودع مقدار اجرة الحج الواجب عن الميت فيما إذا علم أنّ الورثة لا يؤدّون عنه. و قد نقل في الحدائق عن التذكرة أنّه يعتبر أيضا في جوازه الأمن من الضرر. فلو خاف علي نفسه أو ماله لم يجز له ذلك. ثم علّله صاحب الحدائق بقوله: «و هو ظاهر؛ فان الضرورات تبيح المحظورات». «1»

و لا يخفي ما فيه؛ لأنّ الخوف علي النفس و المال، إنما يوجب في محلّ الكلام ارتفاع الجواز و منع الجائز، لا إباحة المحظور، كما ورد في تعليله.

و منها: ما لو اضطرّ المحرم إلي أكل ما فيه طيب فحكموا بجوازه و بأنّه يقبض أنفه وجوبا، ما دام لم يوجب مشقة.

و يتفرّع من هذه المسألة فرعان.

أحدهما: جواز أكل ما فيه طيب، بل شمّه إذا كان أخذ الأنف له حين الأكل شاقّا. و علّلوا ذلك بأنّ الضرورات تبيح المحظورات، كما صرح بهذا التعليل في الحدائق؛ حيث قال: «أما جواز الأكل فدليل إباحته أنّ الضرورات تبيح المحظورات، كما هو مسلّم بينهم في جميع الأحكام». «2»

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 14، ص 279.

(2) الحدائق الناظرة: ج 15، ص 423.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 104

ثانيهما: وجوب أخذ الأنف عند التمكّن، فعلّله في الحدائق بقوله: «إنّ الاضطرار إلي أحدهما لا يبيح الآخر، مع حرمة الجميع، فيقتصر علي محلّ الضرورة». «1»

و هذا التعليل هو مقصود قولهم: «الضرورات تتقدر بقدرها» فصار كقاعدة فقهية بينهم.

و منها: ما لو اضطر الانسان إلي معونة الظالمين، بأن توقّف عليه إمرار معاشه أو حفظ نفسه، فحكموا بجواز ذلك حينئذ. و قد علّله في الحدائق بقوله: «فانّ الضرورات تبيح المحظورات». «2» و كذا علله السيد الخوئي بقوله: «و ذلك للضرورة؛ فانّ الضرورات تبيح المحظورات». «3»

و منها: ما لو اضطر الانسان إلي دفع الرشوة لاستنقاذ حقه الموجب ذهابه وقوعه في المشقة الشديدة أو الحرج و الضرر العظيم، أو لحفظ عرضه. فحكموا بجواز دفع الرشوة حينئذ و علّلوه بهذه القاعدة، كما علّله في الرياض بقوله: «إلّا إذا لم يمكن الوصول إلي الحق بدونها، فيجوز الدفع حينئذ، فان الضرورات

تبيح المحظورات». «4»

و منها: حكمهم بجواز الاحتقان للصائم عند الضرورة؛ معلّلا بهذه القاعدة. كما علّله المحقق النراقي بقوله: «الحرمة إنّما هي إذا لم يكن الاحتقان ضروريا، و إلّا فيباح؛ لأنّ الضرورات تبيح المحظورات». «5»

______________________________

(1) المصدر.

(2) المصدر: ج 18، ص 121.

(3) التنقيح: ج 1، 363.

(4) الرياض: ج 8، ص 84.

(5) مستند الشيعة: ج 10، ص 269- 270.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 105

و منها: مسألة عدم جواز ترك وطي الزوجة أكثر من أربعة أشهر، كما هو الثابت فتوي و نصا. و لكن حكموا بجواز تركه عند الضرورة معلّلا بهذه القاعدة، كما قال المحقق النراقي: «و يختص عدم الجواز بصورة العذر.

و أما معه فيجوز الترك مطلقا إجماعا؛ لأنّ الضرورات تبيح المحظورات». «1»

إلي غير ذلك من الفروع الكثيرة في مختلف أبواب الفقه. و هي خارجة عن حدّ الاحصاء، و لنا في هذا المقدار كفاية.

______________________________

(1) المصدر: ج 16، ص 78.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 107

قاعدة حرمة الإعانة علي الإثم

اشارة

1- أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء 2- اوّل من استدلّ بنصّ هذه القاعدة 3- تحرير مفاد هذه القاعدة 4- مدرك القاعدة 5- هل هي حكم أو غيره؟

6- حالها مع معارضة ساير القواعد 7- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 109

أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء

تطرح اليوم نظرية علي أهل النظر و المحافل العلمية حول منهج المكافحة مع المنكرات و حفظ المجتمع- و لا سيما الشباب- من التلوّث بأنحاء المعاصي و المفاسد.

و هذه النظرية توجب البدأة بالفحص و التحرّي في عوامل تلوّث المجتمع البشري بالقبائح و الآثام و التدقيق في علل هذا المعضل الاجتماعي، ثم الاقدام علي تجفيف جذور الفساد و قلعها. و تمنع عن صرف القدرة و الطاقة في المكافحة مع المعلول و في جهة منع المنكرات و النهي عنها بعد ما كثرت و شاعت بين الناس؛ حيث إنّه لو عرفت علل الفساد و عوامل شيوع المعاصي بالفحص الدقيق التام فتقلع من جذرها، تقلّ الآثام و يرتفع الفساد من غير حاجة إلي مقابلة خشنة حتي تستتبع محاذير و مشاكل اخري كسوء الظن و التشاؤم بالنظام الاسلامي فتوجب انتشار بذور الانزعاج و العداوة، فينجرّ إلي بروز المنازعات بين المؤمنين و نشأة الأفكار و العقائد المنحرفة و تشكيل الأحزاب السياسية المخالفة.

و لا شك أنّ تحريم الإعانة علي الإثم يوجب محو عوامل المعصية و قلع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 110

موادّ الفساد و الفجور و تجفيف جذورها. و ذلك لأنّ حكم حرمة الإعانة علي الإثم إذا تلقّاه المسلمون كثقافة و وضعت قوانين جزائية صريحة قاطعة لذلك و لم ير أهل الفساد و المعاصي مخلصا للفرار من نصّ القانون و لا معينا لأنفسهم،

و لم يعدّ أحد مقدمات الفساد و المعصية لهم، لكي يروا بطيحة المجتمع معدّة للفساد، فحينئذ يؤول لهيب شهوتهم إلي الطفوء، كانطفاء لهيب النار بانعدام المادّة المحترقة و عدم وصول مادّة الاشتعال، من البترول و البانزين و الغاز.

و عليه فيكفي لإثبات أهمية هذه القاعدة و عظم خطرها أنّها تبحث عن محو عوامل تلوّث مجتمع المؤمنين بأنحاء المفاسد و قلع مواد الآثام و المعاصي و تجفيف جذورها.

و من هنا كانت هذه القاعدة منذ أقدم العصور- من زمن شيخ الطائفة- موضع العناية البالغة بين الفقهاء و صارت محل البحث و التحقيق و النقض و الابرام بينهم.

اوّل من استدلّ بنصّ هذه القاعدة

و أوّل من استدلّ بنصّ هذه القاعدة هو الشيخ الطوسي؛ حيث أفتي في المبسوط «1» بحرمة إعطاء الزكاة إلي الفقير المقيم علي المعاصي معللا بهذه القاعدة. و كذا استدل بها لبطلان الوصية باجارة المال للبيع و الكنائس و نحوها. «2»

______________________________

(1) المبسوط: ج 1، ص 251.

(2) المصدر: ج 2، ص 62.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 111

و منهم المحقق صاحب الشرائع؛ حيث أفتي بحرمة بيع كل ما يفضي إلي مساعدة الحرام، و عمّمه في المسالك إلي مطلق أعداء الدين، سواء كانوا مسلمين أو كفارا. و علّل ذلك بهذه القاعدة؛ حيث قال في ذيل كلام صاحب الشرائع: «لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مسلمين أو كفارا؛ لاشتراكهم في الوصف، و هو الإعانة علي المحرم المنهي عنها». «1»

ثم بعده العلامة الحلي، فإنّه استدل بهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتبه.

منها: حكمه بحرمة بيع ما يعلم أنّ المشتري يصنعه صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي؛ معلّلا بهذه القاعدة. «2»

و منها: حكمه بعدم جواز الوقف علي البيع و الكنائس و بيوت

النيران بأنّ في ذلك إعانة علي المعصية. «3»

و أيضا علّل حرمة الوقف علي معونة الزناة أو قطاع الطريق أو شاربي الخمر- و لو كانوا مسلمين- بقوله: «لأنّ الإعانة علي فعل المعصية معصية». «4»

و لا تختص موارد جريان هذه القاعدة بباب خاص من الأبواب الفقهية، بل تجري في مختلف أبواب الفقه، مما يرتبط بمقدمة المعصية و الإعانة علي الإثم.

______________________________

(1) المسالك: ج 3، ص 123.

(2) المختلف: ج 5، ص 22.

(3) التذكرة: ج 2، ص 429.

(4) المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 112

تحرير مفاد هذه القاعدة

المقصود من لفظ «الإعانة» في نص هذه القاعدة معناه اللغوي، لا معني آخر غيره. و هو المساعدة و المظاهرة، أي مساعدة الغير و مظاهرته في فعله باعداد بعض مقدماته و تهيئة آلات الفعل، أو إيجاد المقتضي له و رفع الموانع عنه. و يعتبر في معني الإعانة عدم استناد الفعل إلي المعين عرفا، بل يستند إلي الفاعل المباشر وحده، و إلّا يدخل في عنوان التعاون.

ثم إنّه قد يقصد معني الإعانة من لفظ التعاون، و هو فيما إذا أسند فعل التعاون إلي القوم، كما في قولهم: تعاون القوم، أي أعان بعضهم بعضا و صار عونا له، كما صرّح بذلك في القاموس و الصحاح و المصباح و غيره من معاجم اللغة.

و عليه فالتعاون إذا أسند إلي القوم يكون بمعني إعانة بعضهم بعضا، فلا فرق بينه و بين معني الإعانة حينئذ في الحقيقة، و إنّما يعبّر عنه بالتعاون بلحاظ ما يوجد من التقابل بين الإعانات الصادرة من أفراد القوم متقابلا.

و إنّما الفرق بينهما فيما إذا أسند التعاون إلي اثنين في مثل قولهم:

«تعاون زيد و عمرو في رفع الصخرة».

و الفرق بين الاعانة و التعاون- المستند إلي شخصين-

أنّ في الإعانة تكون المساعدة من أحد الطرفين من دون استناد الفعل إليه عرفا، و إنّما يستند الفعل إلي الطرف الآخر الذي هو الفاعل المباشر. و أما في التعاون تكون المساعدة من الطرفين و لا يستند الفعل إلي طرف واحد، بل يستند إلي الطرفين معا، بمعني أنّ كل واحد منهما يعين الآخر في إيجاد

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 113

الفعل، كما لو رفع شخصان أو أشخاص معا حجرا ثقيلا، بحيث لو لم يساعد أحدهم لم يتمكنوا من رفع ذلك الحجر، فحينئذ يستند رفع ذلك الحجر إليهم جميعا لا إلي بعضهم، فهذا هو حقيقة التعاون.

و اتضح ممّا بيناه في حقيقة الاعانة أنّه يعتبر فيها شيئان.

أحدهما: قصد المساعدة من المعين؛ لأنّ الإعانة من العناوين القصدية، كما هو واضح.

ثانيهما: تحقق الفعل المعان عليه. و قد يتوهم عدم دخل لتحقّقه في صدق الإعانة؛ لأنّ مرتبة تحقق الفعل متأخّرة عن رتبة الإعانة؛ فلا معني لدخل ما هو المتأخر في صدق ما هو المتقدم، و لكنّه توهم غير وجيه. و ذلك لأنّ الإعانة علي فعل أمر إضافي؛ نظرا إلي أخذ تعلّقها بالفعل في عنوانها.

و عليه فيكون الفعل طرف الاضافة، و لا معني لتحقق الأمر الاضافي المتعلّق بالغير من دون تحقق متعلقه الذي هو طرف الاضافة.

و قد وقع الكلام و النقض و الابرام في اعتبار كل من القصد و وقوع الفعل الحرام في مصبّ هذه القاعدة. فقد يتوهم عدم اعتبار شي ء منهما في صدق عنوان الإعانة علي الإثم، و في مقابله القول باعتبارهما معا. و قال جماعة باعتبار القصد دون وقوع الحرام المعان عليه، و اختار آخرون عكس ذلك.

فالصور المتصوّرة في المقام أربعة.

الاولي: و هي صورة تحقق القصد و

الفعل الحرام كليهما، فلا إشكال و لا خلاف في صدق الإعانة علي الإثم حينئذ.

الثانية: و هي ما إذا لم يكن قصد و لم يتحقق الفعل الحرام. و لا إشكال أيضا في عدم صدق الإعانة علي الإثم حينئذ، كما هو واضح. و قد اتضح

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 114

وجه ذلك مما بيّناه في اعتبار قصد الإعانة و تحقق الفعل في صدق عنوان الإعانة علي ذلك الفعل.

و أما ما دلّ عليه بعض النصوص من لعن غارس الخمر فليس المقصود منه هذه الصورة، بل إنّما يحمل علي قاصد التخمير بذلك، كما هو واضح، و إلّا يلزم منه ما لا يمكن الالتزام به بأيّ وجه.

الثالثة: ما إذا لم يقصد المعين بفعله الإعانة علي الحرام، و لكن ترتّب عليه الحرام. و الظاهر أنّ هذه الصورة خلافية. و منشأ الخلاف فيها هو الاختلاف في اعتبار قصد الإعانة علي الحرام في صدق عنوانها.

و إنّ للشيخ الأعظم الأنصاري «1» تحقيقا جامعا في المقام ينبغي تحريره. قال ما حاصله:

ذهب جماعة من الفقهاء إلي أنّ الإعانة هي الاتيان ببعض مقدمات فعل الغير بقصد حصوله: لا مطلقا. و أوّل من أشار إلي هذا هو المحقق الثاني في حاشية الارشاد في مسألة بيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا. و وافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخّري المتأخرين، كالفقيه السبزواري في الكفاية و غيره.

و زاد بعض المعاصرين اعتبار وقوع الحرام المعان عليه. و فيه تأمّل؛ لأنّ حقيقة الإعانة علي الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء سواء حصل أم لا.

و يظهر من الأكثر عدم اعتبار القصد. و منهم الشيخ في المبسوط؛ حيث استدل علي وجوب بذل الطعام لمن يخاف تلفه بقول

النبي صلّي اللّه عليه و آله: «من

______________________________

(1) المكاسب/ الطبع الحجري: ص 17- 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 115

أعان علي قتل مسلم و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه». «1» فجعل مجرد ترك بذل الطعام لمن يخاف تلفه مصداقا للإعانة علي قتل المؤمن، و لو لم يكن بقصد القتل.

و منهم العلامة؛ حيث استدل في التذكرة علي حرمة بيع السلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة علي الظلم. و منهم المحقق الثاني؛ حيث استدل علي حرمة بيع العصير المتنجس ممن يستحلّه بأنّ فيه إعانة علي الإثم.

و كذا المحقق الأردبيلي؛ حيث استدل علي حرمة بيع العصير ممن يعلم أنّه يصنع خمرا بأنّ فيه الإعانة علي الإثم، بل في الرياض- بعد ذكر النصوص الدالة علي جواز بيعه- ردّها بمخالفتها لهذه القاعدة. فانّ إطلاق كلامهم يقتضي عدم اعتبار القصد.

و يؤيّد ما ذكروه من صدق الإعانة بدون القصد ظهور بعض النصوص في ذلك بالاطلاق، مثل النبوي المروي في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أكل الطين فمات فقد أعان علي نفسه». «2» و العلوي المروي فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث وارد في حكم الطين-: «فان أكلته و متّ فقد أعنت علي نفسك». «3» و يدل عليه غير واحد مما ورد في أعوان الظلمة. فانّ من الواضح عدم قصد آكل التراب في الأغلب قتل نفسه، كما أنّ الأغلب في أعوان الظلمة قصد تأمين مئونتهم و قضاء حوائج أنفسهم بذلك. لا الظلم و التعدي إلي الرعية المستضعفين.

______________________________

(1) عوالي اللئالي: ج 2، ص 33، ح 48.

(2) وسائل الشيعة: ج 16، ص 393، ب 58، من الأطعمة و

الأشربة، ح 7.

(3) الكافي: ج 6، ص 266، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 116

و قد فصّل المحقق الأردبيلي بينما إذا كان فعل بعض مقدمات الحرام مع القصد أو علي الوجه الذي يصدق عليه عنوان الإعانة عرفا- مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم، أو يطلب منه القلم لكتابة حكم قتله فيعطيه- و بينما لا يصدق عليه عنوان الإعانة عرفا، كبيع متاع أو الاتيان بفعل كسبا لمنفعة أو رفعا لحاجة فيما إذا انجرّ إلي تقوية ظالم أو إعانته بالمآل.

و لا شك في عدم صدق الإعانة علي مثل ذلك؛ حيث لم يقصدها المعين بذلك، و لا كلام في ذلك. و إنما الكلام فيما إذا قصد الفاعل وصول الغير إلي مقدمة مشتركة بين المعصية و بين غيرها مع علمه بأنّ الغير يصرفها في المعصية، كبيع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا، و إن لم يقصد البائع تخمير الغير بالعنب المبيع. فالاعانة علي شرط الحرام غير الإعانة علي الحرام نفسه. و مجرّد العلم بأنّ الغير يتوصل بتلك المقدمة- المشتركة المعان بها- إلي فعل الحرام لا يوجب أن يصدق عليها عنوان الإعانة علي الحرام نفسه؛ ما لم يكن الشرط بنفسه حراما. و بذلك ينقدح ما في كلام الشيخ في المبسوط من النظر.

ثم فصّل الشيخ الأعظم قدّس سرّه في الشروط بين ما تنحصر فائدته عرفا في تحقّق الحرام المشروط كإعطاء العصا إلي الظالم الذي أراد ضرب أحد، أو إعطاء الكأس إلي شخص استعاره لأن يشرب فيه الخمر. فانّ فائدة العصا و الكأس في هذا الفرض منحصرة عرفا في ضرب المظلوم و شرب الخمر، و من ذلك بيع السلاح من أعداء الدين حال اشتعال الحرب،

بخلاف بيع العنب ممّن يصنعه خمرا؛ لعدم انحصار فائدته في التخمير. و لعل من فرّق بينه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 117

و بين بيع السلاح من أعداء الدين حال الحرب نظر إلي ما قلناه، كما عن الفاضلين في الشرائع و التذكرة.

ثم قسّم قدّس سرّه شرط الحرام إلي أقسام.

أحدها: أن يكون الاتيان به بقصد توصل الغير به إلي الحرام. و هذا لا إشكال في حرمته، لكونه إعانة.

ثانيها: أن يؤتي به بغير قصد توصّل الغير به إلي الحرام و لا لحصول مقدّمته كتجارة التاجر بالنسبة إلي العشّار؛ حيث لم يقصد بتجارته سلطة العشار عليه بأخذ العشر و إن كانت التجارة شرط أخذ العشر. و هذا أيضا لا إشكال في عدم حرمته.

ثالثها: ما يؤتي به بقصد حصول بعض مقدمات الحرام لا بقصد التوصل به إلي الحرام نفسه. و هذا علي وجهين. أحدهما: أن يكون ترك الاتيان به علّة تامّة لعدم تحقق الحرام من الغير. و ثانيهما: أن لا يكون كذلك، بل يعلم عادة أو يظن بترتّب فعل الحرام من الغير عليه. فقوّي وجوب ترك الأوّل و حرمة فعله و جوّز الثاني. انتهي حاصل كلام الشيخ في المقام. «1»

و مقتضي التحقيق في المقام: أنّ الملاك في صدق عنوان الإعانة نظر العرف. و الظاهر صدق عنوانها عرفا علي تسليط الغير علي شي ء يعلم أنّه يفعل به الحرام، سواء علم أنّه سيفعل الحرام أيضا بمعونة شي ء آخر في صورة عدم تسليطه علي ذلك الشي ء، أم لا.

و عليه فلا وجه لاناطة صدق عنوان الإعانة بكون الشرط الصادر من المعين علّة تامة لصدور فعل الحرام من الغير، كما يظهر من الشيخ، بل

______________________________

(1) مكاسب الشيخ: ص 17- 19.

مباني الفقه الفعال في

القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 118

لا يكون شي ء من المقدمات المعدّة بفعل المعين من قبيل العلّة التامّة؛ ضرورة عدم تمامية علّة فعل الحرام، إلّا بارادة فاعل الحرام المحرّكة لعضلاته نحو الفعل. و إنما تكون المقدمات المتحققة بفعل المعين كلّها من قبيل المعدّات و الشرائط التي هي في عداد العلل الناقصة و من أجزاء العلّة.

نعم لا إشكال في اعتبار دوران وجود ذلك الفرد من الحرام مدار تحقق ذلك الشرط في صدق عنوان الإعانة. و لكن لا يضرّه العلم بأنّ الغير يوجد فردا آخر من الحرام بطريق آخر في صورة عدم تحقق ذلك الشرط. و لعلّه مراد الشيخ الأعظم؛ حيث لا ريب في صدق الإعانة علي الحرام بالنسبة إلي ذلك الفعل الحرام المتوقف علي ذلك الشرط المعان به.

فتحصّل أنّ الإعانة تصدق عرفا علي الاتيان بكل ما يعلم المعين بترتّب صدور الإثم من الغير عليه، من شرط أو سبب و نحوه من المقدمات، سواء كان ممّا لو لا إتيانه بذلك الشرط أو السبب لترك الغير ذلك الفعل الحرام و لم يفعله؛ إمّا لعدم تمكّنه أو لاستلزامه المشقّة و الحرج، أو لم يكن من هذا القبيل، بأن يعلم المعين أنّ الغير سيقدم علي فعل الحرام، و لو بمقدمة اخري. و لا يعتبر كونه علّة تامة و لا الجزء الأخير من العلة، كما توهم.

و أما قصد صدور الحرام من الغير فلا يعتبر في صدق عنوانها عرفا، بل يكفي علم المعين بكون الغير بصدد الفعل الحرام و بدوران صدور الفعل الحرام من الغير مدار ما أوجده من بعض المقدمات، فانّ عنوان الإعانة علي الحرام في هذا الفرض صادق بنظر أهل العرف و لو لم يقصد من فعله تحقق الحرام من الغير.

هذا

لو فرضنا انفكاك علمه بذلك عن قصد تحقق الحرام، و هو مشكل

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 119

عادة، بل ينجرّ بالمآل إلي قصد الإعانة علي الحرام. و ذلك لأنّ الاتيان بما يعلم ترتّب الحرام عليه إعانة علي صدور ذلك الحرام من الغير؛ نظرا إلي كون الاتيان به قصديا، فلا ينفك عن الإعانة علي الحرام، و إن لم يقصد المعين من الاتيان بالمقدمة وصول الغير بها إلي الحرام. و عليه فقصد الإعانة لا إشكال في اعتباره في مفهوم الإعانة؛ لأنه أمر قصدي. و هذا القصد هو الذي لا يتصور انفكاكه عن العلم بترتب الحرام، لا قصد وقوع الحرام من الغير.

و أمّا الالتزام بكون إيجاد كلّ ماله مدخلية في تحقق الحرام الصادر من الغير- و لو بوسائط عديدة- إعانة عليه، لا وجه له؛ حيث إنّه لا يصدق عليه عنوان الإعانة عرفا، و إلّا لزم كون الواجب تعالي معينا علي الآثام الصادرة عن العباد؛ لأنّه موجد الآلات و مسبّب الأسباب في الحقيقة، و تعالي اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و أما قصد العصيان من فاعل الإثم فهل يعتبر إحرازه من جانب المعين في صدق الإعانة علي الإثم؟ أو هل يعتبر قصده في نفسه أو لا، بمعني أنّه حتي إذا علم المعين عدم قصد العصيان من الفاعل فهل يحرم عليه الاتيان بمقدماته أم لا؟

و التحقيق في المقام: التفصيل بينما إذا دلّ الدليل المعتبر علي أنّه لا يرضي الشارع بوقوع فعل المعصية بأيّ وجه، كالقتل و اللواط و الزنا و الربا، و نحو ذلك من الكبائر و المحرمات المهمّة في نظر الشارع، و بينما ليس من هذا القبيل.

فيكفي في القسم الأوّل مجرد علم المعين بوقوع الحرام في حرمة

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 120

الإعانة، و لو علم أنّ الفاعل ليس قاصدا لوقوعه.

و أما الثاني فهو خارج عن مصب هذه القاعدة؛ لفرض عدم صدور الإثم من الفاعل و ليس الفعل نفسه مما هو مبغوض عند الشارع حتي يحرم الإعانة علي إيجاده. و ذلك مثل المعاصي و الآثام الصغيرة التي ليست مبغوضة في ذاتها مع قطع النظر عن قصد العصيان من فاعلها، أو ليست مبغوضيتها الذاتية في حد توجب الحرمة باتيان بعض مقدماتها.

هذا إذا لم يكن من قصد المعين تحقق المعصية، و إلّا لا يبعد القول بحرمة الإعانة مطلقا؛ حيث إنّه أتي بمقدمة الإثم قاصدا لوقوعه مع علمه بترتب المعصية عليه. و الانصاف أنّه يشكل فرض انفكاك قصد الإعانة من المعين عن علمه بوقوع الحرام من الغير، كما عرفت آنفا، حتي فيما إذا علم بأنّ الفاعل غير قاصد للعصيان.

و أما الصورة الرابعة: و هي ما لو تحقق القصد و لم يصدر الحرام من الغير- إما لندامة أو لمانع- فلا ريب في عدم صدق الإعانة علي الحرام عرفا؛ حيث لم يتحقق حرام حتي يصدق الإعانة عليه. نعم يصدق الإعانة علي تمكين الغير و تحصيله القدرة علي فعل الحرام، و غاية ما يمكن الالتزام به صدق إعانة الغير في جهة وصوله إلي الحرام، لا الإعانة علي الحرام نفسه. و غاية ما يلزم حينئذ التجري؛ لفرض أنّه قصد بفعله ما هو شرط و مقدمة الحرام الواقع في علمه و اعتقاده، فهو أتي بما هو حرام حسب علمه و اعتقاده، فيكون حينئذ مع كشف الخلاف متجرّيا.

و لكن خالف في ذلك الشيخ الأعظم قدّس سرّه فصرّح بعدم اعتبار وقوع الفعل الحرام المعان عليه من الغير في صدق

عنوان الإعانة علي الحرام، بل جعله

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 121

أمرا مفروغا عنه.

حيث قال: «و ربما زاد بعض المعاصرين علي اعتبار القصد اعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق مفهوم الإعانة في الخارج، و تخيّل أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه، لم يحرم من جهة صدق الإعانة، بل من جهة قصدها، بناء علي ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدمات الحرام بقصد تحققه، و أنّه لو تحقق الفعل كان حراما من جهة القصد إلي المحرّم و من جهة الإعانة. و فيه تأمل: فانّ حقيقة الإعانة علي الشي ء هو الفعل بقصد حصول الشي ء، سواء حصل أم لا». «1»

و استدل بعض المحققين «2» لعدم اعتبار صدور الفعل الحرام من الغير في صدق عنوان الإعانة بأنّ حقيقة الإعانة هي عبارة عن تهيئة المقدمات للحرام و هي لا تستلزم حصوله.

و قد اتضح بما بيّناه آنفا ضعف استدلال الشيخ و استدلال هذا العلم.

و إنّ للسيد الامام الراحل كلاما دقيقا نافعا في الاستدلال لذلك لا يخلو نقله من فائدة، و إليك نصّ كلامه قال قدّس سرّه: «إنّ المفهوم العرفي من الإعانة علي الإثم هو إيجاد مقدمة إيجاد الإثم، و إن لم يوجد. فمن أعطي سلّما لسارق بقصد توصّله إلي السرقة، فقد أعانه علي إيجادها، فلو حيل بين السارق و سرقته شي ء و لم تقع منه، يصدق أنّ المعطي للسلم أعانه علي إيجاد سرقته، و إن عجز السارق عن العمل.

فلو كان تحقق السرقة دخيلا في الصدق فلا بد و أن يقال: إنّ المعتبر في

______________________________

(1) مكاسب الشيخ/ الطبع الحجري: ص 17.

(2) و هو السيد مير عبد الفتّاح في العناوين: ج 1، ص 567- 568.

مباني

الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 122

صدق الإعانة إيجاد المقدمة الموصلة، أو الالتزام بأنّ وجود السرقة من قبيل الشرط المتأخّر لصدق الإعانة و كلاهما خلاف المتفاهم العرفي منها، بل هما أمران عقليان.

أو يقال: لا يصدق عرفا الإعانة علي الإثم حتي وجدت السرقة، فالفعل المأتي به لتوصّل الغير إلي الحرام مراعي حتي يوجد ذو المقدمة، و بعده يقال: إنّه أعانه عليه. و هو أيضا خلاف الواقع.

أو يقال: إنّ صدق الإعانة عليها فعلا باعتبار قيام الطريق العقلائي علي وجود الإثم و بعد التخلّف يكشف عن كونها تجرّيا، لا إعانة و هو أيضا غير صحيح؛ لأنّ الطريق العقلائي عليه لا يتفق إلّا أحيانا. و مع عدم القيام أيضا يقال: أعانه علي إيجاده.

فمن أعطي جصّا لتعمير مسجد، يقال: إنّه أعان علي تعميره قبل تحققه، بل مع عروض مانع عنه. و لهذا يصح أن يقال: إنّي أعنت فلانا علي تعمير المسجد و لم يقع منه ذلك، بلا شائبة تجوّز.

و إن شئت قلت: فرق بين كون الإثم بمعني اسم المصدر و كونه بمعني المصدر في صدق الإعانة، فلو كان بمعني اسمه يعتبر في صدقها الوجود، بخلاف ما إذا كان بمعني المصدر، و المقام من قبيل الثاني». «1» انتهي حاصل كلامه قدّس سرّه.

و فيه: أنّ صدق حقيقة الإعانة لا إشكال فيه بمجرد فعل المقدمات و تهيئتها، إلّا أنّه في الحقيقة إعانة الغير علي تمكينه من الحرام و تحصيله

______________________________

(1) المكاسب المحرمة/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 141- 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 123

القدرة عليه كما قلنا، و أما إعانته علي فعل الحرام نفسه في فرض عدم صدور الحرام منه فيشكل صدقها عرفا، بل لا يخلو إطلاق

الإعانة علي الحرام حينئذ من ركاكة عند أهل العرف، إلّا مجازا بعناية و لحاظ قرينة.

و بعبارة أخري: إنّ المتبادر إلي أذهان أهل العرف من عنوان الإعانة علي الإثم هو الإعانة علي الإثم الصادر من الغير، لا الاثم الذي لم يصدر و إنما كان الغير بصدد فعله، و لا يلزم من ذلك أخذ إيجاد المقدمة الموصلة في صدق عنوان الإعانة، كما أشكل بذلك السيد الامام الراحل قدّس سرّه.

و ذلك لأنّ الدخيل في صدق عنوانها في نظر العرف ترتّب الحرام علي الفعل المعان به بحيث ينتفي بانتفائه، لا ضرورة وجوده بوجوده و عدم انفكاكه عنه، كضرورة وجود المعلول بوجود علته التامة أو ضرورة وجود ذي المقدمة بوجود مقدّمته الموصلة.

و أما إطلاق الإعانة علي تعمير المسجد قبل تحققه علي فعل تهيئة أسباب التعمير بقصد ذلك، فهو مسامحي و عنائي بملاحظة القرينة.

و من هنا لو التفت أهل العرف إلي عدم تحقق التعمير، يقولون: أعان فلان في جهة تعمير المسجد، و ما دام لم يشرع التعمير لا يطلقون الإعانة علي تعميره حقيقة، بل إنما يطلقون عنوانها بقرينة الأول و المشارفة مجازا.

و إنّ للسيد الامام الراحل كلاما نافعا في المقام فراجع. «1»

و حاصل الكلام في المقام: أنّه يعتبر في صدق عنوان الإعانة علي الإثم- الذي هو عنوان القاعدة المبحوث عنها في المقام- ثلاثة أمور، بحيث

______________________________

(1) المكاسب المحرّمة/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 141- 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 124

لو انتفي واحد منها لا يصدق عنوان القاعدة.

أحدها: ترتّب صدور الحرام من الغير علي الفعل المعان به، بأن ينتفي بانتفائه و إن لم يستلزم الاتيان به صدور طبيعي الفعل الحرام من الغير لا مكان تحققه بمقدمة أخري عقلا.

و من هنا قلنا بعدم اعتبار كون الفعل المعان به علة تامة لتحقق الحرام، كما يظهر من الشيخ الأعظم، و لا الجزء الأخير من العلة، كما توهم بعض.

ثانيها: قصد الإعانة علي الإثم أو العلم بالدوران المزبور علي النحو الذي بيّناه في الأمر الأوّل علي سبيل مانعة الخلو، فلا بد إمّا من تحقق قصد الإعانة أو علم المعين بترتب الفعل الحرام علي ما أتي به من الشرط أو السبب في صدق عنوان الإعانة عرفا. فلو انتفيا معا لا يصدق عنوانها في نظر أهل العرف و لو تحقق الأمران الآخران، و إن لا ينفك قصد الإعانة عن العلم بذلك غالبا. و لعلّ صدق عنوان الإعانة علي الإثم علي إعطاء العصا و السكين إلي مريد الظلم و القتل يكون لأجل ذلك، كما أشار إليه السيد الامام الراحل قدّس سرّه. «1»

نعم هاهنا صورة: و هي أنّ الفعل المعان به لو كان من المقدمات التي لها دخل في صدور الحرام من الغير و لو بنحو الداعي- لا بنحو الدوران المزبور- لا يبعد صدق الإعانة فيما إذا قصد بفعله الإعانة علي صدور الحرام من الغير، بخلاف مجرد علمه بذلك، فلا يكفي علم المعين في صدق عنوان الإعانة حينئذ، كما في تجارة التجار مع علمه بكون الاتجار موجبا

______________________________

(1) المصدر: ص 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 125

لتسليط العشار عليه و أخذ العشر منه.

و عليه فمع قصد الاعانة يصدق عنوان الإعانة عرفا مطلقا؛ حيث لا فرق في صدق الإعانة علي الإثم حينئذ بين كون الفعل المعان به من قبيل الأسباب و بين كونه من الدواعي و لا بين كونه من المقدمات القربية المتمحضة في السببية لصدور الحرام من الغير أو

من المقدمات البعيدة غير المتمحّضة في ذلك، و هذا بخلاف علم المعين فلا يكفي وحده في صدق عنوان الاعانة علي الإثم عرفا في الدواعي و المقدمات البعيدة، و إن يشكل أصل حصول علمه حينئذ، كما يشكل كفاية مجرد القصد في المقدمات البعيدة.

ثالثها: صدور الحرام المعان عليه من الغير؛ لأنّ حقيقة الإعانة و إن تصدق بالنسبة إلي مقدمات الحرام و حصول القدرة علي الحرام للغير بقدر ما اقتضاه الفعل المعان به، لكن الإعانة علي الحرام نفسه لا تصدق عرفا ما لم يصدر الحرام من الغير، كما هو واضح، و لا فرق في ذلك بين كون الإثم بمعناه المصدري أو اسم المصدر، كما يظهر من السيد الامام الراحل قدس سرّه. «1»

و ذلك لأنّ الملاك في صدق عنوان القاعدة تحقق الفعل الحرام و لو بأوّل جزئه. و هذا يصدق باشتغال الغير بفعل الحرام. فبمجرّد شروعه بالمعصية يصدق عرفا عنوان الإعانة علي الإثم. و هذا يلائم مع الإثم بمعناه المصدري، فلا حاجة إلي التجشّم بكونه بمعني اسم المصدر لإثبات تعليق صدق عنوانها علي بعد وقوع الإثم.

و مما يؤيّد ذلك قوله صلّي اللّه عليه و آله: «من أكل الطين فمات فقد أعان علي نفسه» و مثل

______________________________

(1) المكاسب المحرمة/ طبع مطبعة مهر: ج 1، ص 142.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 126

قوله قول الصادق عليه السّلام: «فان أكلته و مت فقد أعنت علي نفسك». «1» فان تعليق الاعانة علي الموت في هاتين الروايتين يشعر بدخل وقوع الإثم في صدق الإعانة عليه. و الإثم هاهنا قتل الرجل نفسه. و هو يصدق فيما إذا كان فعل الرجل سببا لموته.

هذا كله في عنوان الإعانة.

و أما الإثم فمعناه مطلق المعصية. و العدوان

هو الظلم. فهو من باب عطف الخاص علي العام، و هذا واضح لا يحتاج إلي إطالة الكلام.

ثم إنّه لا إشكال في دخول إعانة الغير علي الإثم في مصب القاعدة و مفادها.

و أما إعانة النفس علي الإثم، فهل يدخل في مفاد القاعدة أم لا؟

فقد استظهر بعض المحققين «2» خروجه عن مصبّ القاعدة من كلام الشيخ الأعظم؛ حيث قال في رد شيخ الطائفة: «ثم إنّ محل الكلام في ما يعد شرطا للمعصية الصادرة عن الغير. فما تقدم في المبسوط، من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستندا إلي قوله عليه السّلام: «من أعان علي قتل مسلم … » محل تأمل، إلّا أن يريد الفحوي». «3»

و لكن لا نظر للشيخ إلي هذه الجهة، بل إنما نظره إلي اعتبار الاتيان بما هو شرط للمعصية، بحيث يتحقق بفعله الإعانة علي الإثم، و لمّا كان ترك بذل الطعام أمرا عدميا لا يصلح للشرطية، و إلّا لم يكن كلام شيخ الطائفة في

______________________________

(1) الكافي: ج 6، ص 266، ح 5 و 8.

(2) و هو الشيخ محمد الفاضل في القواعد الفقهية: ج 1، ص 458.

(3) مكاسب الشيخ: ص 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 127

من خاف علي نفسه ليكون كلام الشيخ ردّا عليه.

و علي أيّ حال فالتحقيق: دخول إعانة النفس علي الإثم في عنوان القاعدة؛ حيث لم يؤخذ في عنوانها إعانة الغير علي الإثم، بل إنما المأخوذ في عنوانها هو الإعانة علي الإثم مطلقا، سواء كان صادرا عن الغير أو عن نفس المعين، فلا وجه للاختصاص؛ نظرا إلي عمومية الملاك.

مدرك القاعدة

اشارة

قد استدل لهذه القاعدة بوجوه:

الأوّل: العقل.

بتقريب أنّ العقل يحكم بقبح الاعانة علي معصية المولي و المساعدة علي الاتيان بمبغوضه، كحكمه بقبح فعل المعصية نفسه؛ لأنه كما يحكم بقبح معصية المولي و الاتيان بمبغوضه، فكذلك يحكم بقبح الإعانة و المساعدة علي ذلك من غير فرق.

و من هنا تري العقلاء كما يقبّحون عبدا ضرب مولاه أو أهانه، فكذلك يقبّحون إعانته علي ذلك و مساعدته بتمهيد المقدمات و مظاهرته لمن أهان مولاه، و لو بالترغيب و التشويق.

و من هنا وضعوا في قوانينهم العرفية جزاء علي من أعان المجرم في ارتكاب الجرم و ساعده علي ذلك، كمن أعان السارق في سرقته أو ساعد القاتل في قتله بتهيئة الأسباب أو حبس صاحب المال أو المقتول قبل قتله ليقتله القاتل أو بالحراسة و المناوبة أو بالدلالة علي موضع اختفاء المال المسروق قبل السرقة و الشخص المقتول قبل قتله، بلا فرق في ذلك بين

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 128

كون المقدمات من القبائح بنفسها مع قطع النظر عن المقدمية أو كان قبحها باعتبار مقدميتها للجرم و الجناية.

و لا يخفي أنّ حكم العقل بقبح الإعانة علي الإثم لا ينافي عدم الالتزام بالملازمة عقلا بين حرمة الشي ء و بين حرمة مقدمته. و ذلك لأنّ المدّعي هناك ثبوت الحرمة الترشحية الناشئة من حرمة ذي المقدمة. و هاهنا إنّما يحرم ما يتوصّل به إلي الحرام من المقدمات لأجل انطباق عنوان الإعانة علي الإثم عليه؛ حيث إنّ هذا العنوان بنفسه موضوع حكم العقل. فالحرمة ثابتة لنفس هذا الموضوع بعنوانه الأولي، من دون سراية الحرمة و ترشّحها إليه من شي ء آخر.

الثاني: الاجماع.

و أما الاجماع و إن ادّعي في المقام، و لكن لا اعتبار به في مثل المقام؛ نظرا إلي وجود

الأدلة القطعية الصالحة للتمسك بها في المقام، و إحراز استنادهم إلي بعض هذه الوجوه.

الثالث: الكتاب:

أما الكتاب: فاستدل بقوله تعالي: «وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ» «1»؛ نظرا إلي ظهور النهي في الحرمة عند عدم قرينة صارفة إلي الكراهة. و هي منتفية في المقام.

و الإشكال بأنّ العلم بعدم إرادة ظاهر الأمر بالتعاون علي البر و التقوي في الفقرة السابقة «2» - لمعلومية عدم وجوب مطلق التعاون علي البر- قرينة

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 2.

(2) و هي قوله: «تعاونوا علي البرّ و التقوي». المصدر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 129

علي عدم إرادة ظاهر النهي في هذه الفقرة أيضا؛ بزعم أنّ ذلك مقتضي وحدة السياق، مدفوع.

و ذلك لأنّ وحدة السياق إنّما هي تصلح للقرينية علي تعيين المراد فيما إذا كانت الفقرات المتوالية في كلام واحد متعلقة للأمر أو النهي، دون ما إذا ورد الأمر في بعضها و النهي في الأخري، كما في المقام. فان كل واحد من الفقرتين في هذه الآية غير مرتبط بالآخر؛ إذ سياق الأمر غير سياق النهي.

و مجرد تتالي الجملتين في الذكر لا يوجب وحدة السياق. و عليه فظهور النهي في هذه الآية في الحرمة مما لا إشكال فيه.

و إنّما الإشكال في صدق عنوان التعاون علي الإعانة. فربما يقال: لو قلنا بصدق عنوانه علي الإعانة تتم دلالة الآية علي هذه القاعدة، و إلّا فلا، و لمّا ثبتت المغايرة بين العنوانين و عدم صدق عنوان التعاون علي الإعانة، لا تتم دلالتها علي مفاد القاعدة المبحوث عنها في المقام.

و لكن مقتضي التحقيق: تماميّة دلالة الآية علي المطلوب. و ذلك لأنّ عنوان الإعانة و إن كان غير عنوان التعاون و هما متغايران في الماهية، كما

بيّنا وجه ذلك مفصّلا في تحرير مفاد هذه القاعدة، إلّا أنّ هذا الفرق إنما يكون في فعل واحد بلحاظ واقعة واحدة. كما لو قلنا: أعان زيد عمرا في بناء المسجد، فانه ليس بمعني قولنا: تعاون زيد و عمرو في بناء المسجد؛ لأنّ الإعانة هنا بمعني تمهيد المقدمات و إيجاد الأسباب، و التعاون بمعني إيجاد جزء من المسجد بحيث يستند بناء المسجد إليهما معا.

و لكن في الآية الشريفة ليس إطلاق لفظ التعاون باللحاظ المزبور، بل إنما هو بلحاظ وقائع عديدة؛ إذ هي خطاب إلي عموم المؤمنين، و المقصود

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 130

النهي عن إعانة بعضهم بعضا آخر في الإثم، كأن يعين زيد عمرا في فعل معصية و يعين عمرو زيدا في فعل معصية أخري. و استعمال صيغة التفاعل بهذا المعني في القرآن شايع، كما في قوله تعالي: «وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ»، أي وصّي كل منهم الآخر بالحق و الصبر. و قوله تعالي: «عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ» أي: عن أيّ شي ء يسأل كل منهم الآخر. و قوله تعالي: «وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ». و مثل ذلك من الآيات كثيرة في الكتاب المجيد.

فالمقصود نهي المؤمنين عن إعانة كل منهم الآخر في الإثم. و بهذا البيان تتمّ دلالتها علي مفاد هذه القاعدة.

و يدل علي ذلك أولا: أنّ في التعاون لما أخذ استناد الفعل إلي الطرفين فكل منهما في الحقيقة فاعل الإثم، و الآية بصدد النهي عن شي ء زائد غير أصل فعل الإثم.

و ثانيا: أنّ وقوع إثم واحد من جماعة- بحيث كانوا مشتركين في فعله فيستند إلي جميعهم- أمر نادر الوقوع، و من المستبعد جدا نظر الآية إلي ذلك.

و ثالثا: نصّ

بعض أهل اللغة علي أنّ التعاون المسند إلي القوم، بمعني إعانة بعض القوم بعضا، كما عن القاموس و المنجد. و في الصحاح: تعاون القوم: أعان بعضهم بعضا، و كذا صرّح به في المصباح المنير.

و إنّ مقارنة الإثم و العدوان في تعلق النهي قرينة علي إرادة التحريم من النهي عن الإثم؛ إذ لا ريب في حرمة الإعانة علي الظلم و العدوان؛ لدلالة النصوص المستفيضة علي ذلك.

و حاصل الكلام: أنه لا يبقي أيّ شك في دلالة الآية علي مفاد هذه القاعدة- و هو حرمة الإعانة علي الإثم- بعد ملاحظة ما بيّناه في الاستدلال لذلك.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 131

الرابع: السنة.

فقد دلّت علي هذه القاعدة- مضافا إلي ما جاء في كلام الشيخ الأعظم قدّس سرّه- نصوص أخري متظافرة علي حرمة الإعانة علي بعض المحرّمات كالإعانة علي القتل و صنع الخمر و أخذ الربا و مطلق الظلم.

فمنها: ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أعان علي مؤمن بشطر كلمة لقي اللّه عز و جل و بين عينيه مكتوب؛ آيس من رحمة اللّه». «1» و رواه الصدوق باسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و منها: ما ورد في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«من أعان ظالما علي مظلوم لم يزل اللّه عليه ساخطا حتي ينزع من معونته». «2»

و قد دلّ علي هذا المعني نصوص متظافرة «3» و مثله ما رواه الراوندي في نوادره بسنده الصحيح عن موسي بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله … من أعان ظالما علي ظلمه و هو يعلم أنّه ظالم فقد برئ من الإسلام».

«4»

و روي عنه صلّي اللّه عليه و آله بهذا الاسناد، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

«إذا كان يوم القيامة نادي مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة؟ من لاق لهم دواة أو ربط لهم كيسا أو مدّ لهم مدّة احشروه معهم». «5»

و منها: النبوي المروي بطرق عديدة عن أبي جعفر و عن الصادق عن

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19، ص 9، ب 2 من القصاص في النفس ح 4.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 345، ب أبواب جهاد النفس ح 5.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ب 80 من أبواب جهاد النفس.

(4) نوادر الراوندي: ص 17.

(5) المصدر: ص 19.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 132

آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بايعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه». «1» و من الواضح عدم كون الغارس و الحامل فاعل المعصية، بل معين لفاعلها.

و مثله ما ورد عن علي عليه السّلام قال: «لعن رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله الربا و آكله و بايعه و مشتريه و كاتبه و شاهديه». «2» فانّ كاتب الربا و شاهده ليسا آخذ الربا و لا معطيه، بل من قبيل المعين علي ذلك.

و من النصوص الدالة علي مفاد هذه القاعدة ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عن علي عليه السّلام- في حديث- قال: «قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: و من أمر بسوء أو دلّ عليه أو أشار به فهو شريك». «3» فانّ الأمر بالسوء و الإثم و

الدلالة عليه و الاشارة إليه من أبرز مصاديق الإعانة. و هذه الرواية من أدلّ ما في المقام؛ إذ تدل علي مفاد هذه القاعدة علي نحو الكبري الكلية، بلا اختصاص بمورد.

و منها: ما رواه الصدوق في الفقيه و الخصال و المجالس بطرقه المختلفة عن الصادق عليه السّلام قال: «حسب المؤمن نصرة أن يري عدوّه يعمل بمعاصي اللّه» «4»؛ حيث دلّ علي قطعية حرمة الإعانة علي المعصية و المفروغية عنها بفحوي الخطاب و الأولوية، كما هو واضح.

و منها: ما ورد في النصوص المستفيضة المتظافرة عن الباقر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 12، ص 165، ب 55، مما يكسب به ح 4 و 5.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 430، ب 4 من الربا، ح 2 و 3 و 4.

(3) وسائل الشيعة: ج 11، ص 398، ب 1 من الأمر و النهي ح 21.

(4) المصدر: ج 11، ص 409، ب 5 من الأمر و النهي، ح 3.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 133

و الصادق عليهما السّلام: «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به و لا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا». «1» فان تعليم باب الإثم و الضلال من مصاديق الإعانة و من مقدماتها البعيدة فكيف بمقدماتها القريبة الممحضة لإيجاد الإثم.

و منها: ما روي عن الصادق عليه السّلام بطرق عديدة- في حديث- قال عليه السّلام: «و إذا رأي المنكر و لم ينكره و هو يقوي عليه فقد أحبّ أن يعصي اللّه، و من أحب أن يعصي اللّه فقد بارز اللّه بالعداوة». «2» بتقريب أنّه إذا كان ترك إنكار المنكر و الرضا بوقوع المعصية و حبّها في حكم مبارزة اللّه بالعداوة، فكيف بالاعانة علي معصية

اللّه؟! فيدل هذا الحديث الشريف علي حرمة الاعانة علي الإثم بالفحوي.

و منها: صحيح أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين قال: «اياكم و صحبة العاصين و مجاورة الفاسقين احذروا فتنتهم و تباعدوا من صاحبتهم». «3»

و منها: ما رواه الكشي في رجاله بسنده المعتبر عن صفوان الجمّال أنّ أبا الحسن موسي عليه السّلام قال له:

«كل شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا. قلت: أيّ شي ء؟ قال عليه السّلام: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون- إلي أن قال عليه السّلام- يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟

قلت: نعم، قال عليه السّلام: أ تحب بقاءهم حتي يخرج كراؤك؟ قلت: نعم. قال عليه السّلام: فمن أحب بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار، قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها». «4»

و منها: ما رواه علي بن إبراهيم بسنده عن الصادق عليه السّلام قال:

______________________________

(1) المصدر: ج 11، ص 436، ب 16، من الأمر و النهي.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 501، ب 37 من الأمر و النهي، ح 5.

(3) المصدر: ج 11، ص 503 ب 38 من الأمر و النهي، ح 3. و فيه: «ساحتهم» بدل «صاحبتهم».

(4) المصدر: ج 11، ص 502، ب 37 من الأمر و النهي، ح 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 134

«قال عليه السّلام: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه امام أو يغتاب فيه مؤمن. إنّ اللّه يقول في كتابه: وَ إِذٰا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰي يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ». «1» فانه دلّ علي المطلوب بالفحوي.

إلي غير ذلك من النصوص المتفرقة في مختلف أبواب الفقه، يجدها المتتبع في مظانّها، فقد

دلّ بعضها علي مفاد هذه القاعدة علي نحو الكبري الكلية و أما ساير النصوص الواردة في الموارد المختلفة فبعد إلقاء الخصوصية عن مواردها و استظهار كبري حرمة الإعانة علي المعصية من جميعها تتمّ دلالتها علي هذه القاعدة، كما هو الحق؛ حيث لا خصوصية لهذه الموارد إلّا كونها معصية و كون الاتيان بمقدماتها و تهيئة شرائطها إعانة علي الاثم و المعصية.

الخامس: أدلة وجوب النهي عن المنكر.

بتقريب: أنّ المستفاد منها وجوب دفع المنكر و قلع مادّة الفساد. و إنّ وجوب دفعه مناقض للإعانة علي وقوعه. فيستلزم وجوب النهي عنه حرمة الإعانة عليه، لزوما بيّنا بالمعني الأخص.

و بعبارة أخري: إنّ أدلّة وجوب النهي عن المنكر تدل بالدلالة الالتزامية علي حرمة الإعانة علي فعل المنكر، فيكون مفاد هذه القاعدة مدلول أدلّة وجوب النهي عن المنكر بالدلالة الالتزامية؛ لأنّ حرمة الإعانة علي الإثم لازم لوجوب النهي عنه، لزوما بيّنا بالمعني الأخص.

و أما دلالتها علي وجوب دفع المنكر؛ فلأنّه لا معني لوجوب رفع المنكر

______________________________

(1) المصدر: ج 11، ص 504، ب 38، ح 8.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 135

في نظر العقل؛ لأنّ ما وقع من الإثم في الخارج لا ينقلب عما هو عليه. فالممكن عقلا هو المنع عن وقوع الإثم مطلقا، سواء اشتغل به الفاعل أو لم يشتغل.

فكما أنّ متعلّق نهي الناهي هناك ما هو في معرض التحقق من الإثم بغرض دفعه و المنع عن وقوعه، كذلك في المقام؛ لأنّ الإعانة إنّما هي علي الإثم الذي في معرض التحقق لغرض إيجاده و المساعدة علي وقوعه. و لمّا يجب دفع الإثم و المنع عن وقوعه، يحرم الإعانة علي إيجاده و المساعدة علي وقوعه.

و بهذا التقريب تتم دلالة أدلة النهي عن المنكر علي حرمة

الإعانة علي الإثم. و لا سيما مع تلك التأكيدات الواردة فيها علي وجوب الانكار بالقلب و اللسان و اليد، و تعذيب طائفة من الأخيار في الامم السالفة لمداهنتهم مع أهل المعاصي، و ما ورد من النهي عن الرضا بفعل المعاصي و الآثام و الأمر بملاقاة أهلها بالوجوه المكفهرة؛ أي العبوسة.

كما ورد عن الامام الحسن بن علي العسكري عليه السّلام في تفسيره عن آبائه، عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في حديث قال:

«لقد أوحي اللّه إلي جبرئيل و أمره أن يخسف ببلد يشتمل علي الكفار و الفجار. قال جبرئيل: يا رب أخسف بهم إلّا بفلان الزاهد ليعرف ما ذا يأمره اللّه فيه. فقال: اخسف بفلان قبلهم. فسأل ربه قال عليه السّلام: يا رب عرّفني لم ذلك و هو زاهد عابد؟ قال: مكّنت له و أقدرته فهو لا يأمر بالمعروف و لا ينهي عن المنكر، و كان يتوفّر علي حبهم في غضبي.

فقالوا: يا رسول اللّه فكيف بنا و نحن لا نقدر علي إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: لتأمرن بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر أو ليعمّنّكم عذاب اللّه. ثم قال صلّي اللّه عليه و آله: من رأي منكم منكرا فلينكر بيده ان استطاع. فإن لم يستطع فبلسانه. فان لم يستطع فبقبله.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 136

فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنّه لذلك كاره». «1»

و ما رواه الصدوق في العيون و العلل عن أحمد بن زياد جعفر الهمداني، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي قال:

«قلت لأبي الحسن علي بن موسي الرضا عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه

ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السّلام قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السّلام بفعال آبائها؟

فقال عليه السّلام: هو كذلك. فقلت: قول اللّه عز و جل: وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْريٰ، ما معناه؟ قال عليه السّلام:

صدق اللّه في جميع أقواله، و لكن ذراري قتلة الحسين عليه السّلام يرضون بفعال آبائهم و يفتخرون بها، و من رضي شيئا كان كمن أتاه. و لو أنّ رجلا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه عز و جل شريك القاتل، و إنما يقتلهم القائم عليه السّلام إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم». «2»

و ما رواه البرقي في المحاسن عن محمد بن مسلم رفعه، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه و من سخطه فقد خرج منه». «3»

و ما ورد عن علي عليه السّلام في نهج البلاغة، قال: «الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه، و علي كل داخل فيه باطل إثمان: إثم العمل به، و إثم الرضا به». «4»

و ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أمرنا رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله أن نلقي أهل المعاصي بوجوه

______________________________

(1) الوسائل: ج 11، ص 406 ب 3 من الأمر و النهي، ح 12.

(2) وسائل الشيعة: ج 11، ص 409، ب 5 من الأمر و النهي، ح 4.

(3) المصدر: ص 411، ح 9.

(4) المصدر: ح 12.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 137

مكفهرّة». «1» و المكفهر: العبوس، من اكفهرّ الرجل إذا عبس، كما عن الجوهري.

هل هي حكم أو غيره؟

لا إشكال في كون

مفاد هذه القاعدة الحكم التكليفي، و هو حرمة الاعانة علي الإثم، كما ينادي بذلك نصّها. و عليه فاحتمال كونه أمارة أو أصلا لا يعبأ به.

و لا يخفي أنّ حرمة الإعانة علي الإثم و إن كانت حكما تكليفيا، و لكنّها تستتبع الحكم الوضعي في المعاملات، حيث توجب فسادها. و ذلك لما تقرّر في محلّه من أنّ النهي في المعاملات يوجب الفساد. و هذا إنّما فيما إذا انطبق علي البيع عنوان الإعانة علي الإثم؛ حيث يتعلّق النهي حينئذ بأصل البيع، لا بعض شرائطه أو أجزائه الغير المقوّمة.

حالها مع معارضة ساير القواعد

إذا وقع التعارض بين هذه القاعدة و بين ساير القواعد، فقد تقدّم هذه القاعدة علي غيرها، و قد يكون الأمر بالعكس.

فإذا وقع التعارض بينها و بين قاعدة العدل و الانصاف

بأن يلزم من تقسيم المال بالسوية إعطاء جزء من المال إلي غير مستحقه، فان علم المعطي إليه عدم استحقاقه لما وصل إليه بالتقسيم يكون تصرفه فيه معصية و إثما. فيكون التقسيم بالسوية حينئذ مقدمة لوقوعه في هذا الإثم. فيتحقق به الإعانة علي الإثم فيدخل في هذه القاعدة.

______________________________

(1) المصدر: ج 11، ص 413، ب 6، ح 1، و الكافي: ج 5، ح 10.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 138

فحينئذ تقدّم قاعدة العدل و الانصاف؛ حيث لا مناص من العمل بها لا حراز إيصال المال- و لو ببعضه- إلي مالكه الواقعي، كما حرّرنا ذلك في الاستدلال بالدليل العقلي لهذه القاعدة. هذا مضافا إلي عدم قصد إعطاء المال إلي غير مستحقه، بل المقصود من التقسيم بالسوية ليس إلّا إحراز إيصال المال- و لو بعضه- إلي مالكه الواقعي، و إن يعلم المقسّم بايصال جزء من المال المتردد إلي غير مالكه بهذا التقسيم.

و

هذا الكلام بعينه يجري في قاعدة القرعة.

و أما إذا وقع التعارض بين قاعدة السلطنة و بين هذه القاعدة

فلا إشكال في تقديم هذه القاعدة؛ لأنّ سلطنة الانسان علي ما له إنّما هي ثابتة في نظر الشارع فيما إذا لم يوجب إعمالها معصية اللّه و لا إيذاء المؤمنين و التعدي إليهم. كما لو آجر شخص بيته للإتيان بالمحرّمات، كإجراء عملية الغناء و الموسيقي و صنع الخمر و ساير الاثام و الفواحش، أو آجر دابته أو سيارته لحمل الخمر و موارد الفساد، أو لحمل عمّال الطواغيت و الظلمة و حكام الجور، كما أشير إليه في رواية صفوان الجمّال السابق آنفا.

فيقع التعارض بين القاعدتين في مثل هذه الموارد؛ لأنّ قاعدة حرمة الاعانة علي الإثم تقول: إنّ ذلك إعانة علي الاثم و المعصية و العدوان، و هو حرام. و لكن قاعدة السلطنة تقول: الناس مسلّطون علي أموالهم، و مقتضي سلطنة المالك علي ما له جواز تصرّفه فيه و الانتفاع به كيف شاء.

و لا ريب في تقديم قاعدة حرمة الاعانة علي الإثم، لأنّ النهي و التحريم يرفعان السلطنة شرعا، فلا يبقي جواز التصرف بعد ما ارتفعت السلطنة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 139

بتعلّق النهي و التحريم.

و أما إذا وقع التعارض بين هذه القاعدة و بين قاعدتي نفي الحرج و الضرر

فالأقوي تقديمهما علي هذه القاعدة؛ لأنهما حاكمان علي جميع الأحكام الأولية، حتي علي فعل الإثم و المعصية نفسه، فضلا عن الإعانة عليه. مثال ذلك كما لو وقع الشخص في العسر و الحرج في عيشه إذا لم يبع العنب ممن يعلم أنّه يصنعه خمرا أو لو يعمل في دوائر الدولة الجائرة و خدمة السلطان.

و لكن لا بدّ من ملاحظة الأهمّ

فالأهمّ في مثل المقام، فربّ حرج و ضرر لا يصلح لرفع حرمة الإعانة علي بعض المعاصي و الآثام؛ لما لها من الأهمّية في نظر الشارع؛ بحيث يقطع بعدم رضي الشارع بوقوعه بأيّ وجه.

هذا، و لكن يظهر من الشيخ الأنصاري تقديم هذه القاعدة علي قاعدتي نفي الضرر و الحرج. و وجّه ذلك بأنّ حرمة الإعانة علي الإثم ثابتة بحكم العقل، فلا تقبل التخصيص بأدلّة نفي الضرر و الحرج الثابتة من الشارع.

فانه قال: «لا يخفي أنّ أدلّة حرمة الإعانة أقوي من تلك؛ لكونها مطابقة لحكم العقل بقبح الإعانة علي القبيح، فلا تقبل التخصيص بأدلّة نفي الضرر و الحرج؛ لأنّ نفيهما في المقام بالشرع لا باستقلال العقل». «1»

و لكن يرد عليه لزوم زيادة الفرع علي الأصل؛ لأنّ أدلّة كثير من

______________________________

(1) القضاء و الشهادات: ص 238.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 140

المحرّمات و الواجبات محكومة بدليل نفي الضرر و الحرج، فكيف لا يكون أدلة حرمة الإعانة عليها كذلك؟! هذا مضافا إلي أنّ الدليل العقلي القائم علي حرمة الإعانة علي الإثم يبتني علي قبح الإثم المعان عليها عقلا؛ لأنها معصية للمولي. و لا يلزم من ذلك ثبوت أصل الحرمة بحكم العقل و إنّما العقل يحكم بقبح فعل ما ثبت كونه معصية و حراما و لو بدليل الشرع، أي ما ثبت منعه و تحريمه من قبل المولي يحكم العقل بقبح الاتيان به. فاذا ارتفع أصل المنع و التحريم عن الفعل الحرام بدليل نفي الضرر و الحرج فلا معني لحرمة الإعانة عليه حينئذ.

التطبيقات الفقهية

قد تبيّن من خلال ما بيّنّاه سابقا كثير من موارد جريان هذه القاعدة و تطبيقاتها الفقهية، و مع ذلك ينبغي هاهنا ذكر نماذج أخري من تطبيقاتها

المصرّح بها في نصّ كلمات فحول الفقهاء من القدماء و المتأخرين.

فنقول: قد أفتي الفقهاء- من القدماء و المتأخرين- في موارد عديدة من هذه القاعدة بمفادها، و استدلوا بها لفتاواهم، كما في الإعانة علي القتل و الظلم، و سبق نقله عن الشيخ الطوسي في المبسوط، و نحو ذلك مما لا يحصي في كلماتهم. و نكتفي هاهنا بذكر نماذج من كلمات الفقهاء الذين استدلوا بنص هذه القاعدة لفتاواهم.

و أوّل من استدلّ بنص هذه القاعدة فيما وصلت إليه هو الشيخ الطوسي؛ حيث أفتي بحرمة إعطاء الزكاة إلي الفقير المقيم علي المعصية معلّلا بأنه إعانة علي المعصية. قال قدّس سرّه: «فان كان فقيرا نظر فان كان مقيما

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 141

علي المعصية لم يعطه؛ لأنه إعانة علي المعصية، و إن تاب يجوز أن يعطي من سهم الفقراء». «1»

و كذا حكم ببطلان الوصية علي إجارة الملك للبيع و الكنائس و نحو ذلك من المحرمات مستدلا بأنها إعانة علي المعصية؛ حيث قال قدّس سرّه: «إن أوصي أن يستأجر به خدما للبيعة و الكنيسة و يعمل به صلبانا، أو يستصبح به، أو يشتري أرضا فتوقف عليها، أو ما كان في هذا المعني، كانت الوصية باطلة؛ لأنّها إعانة علي معصية». «2»

ثم بعده العلّامة الحلي استدلّ بهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتبه المختلفة في مختلف الفروع الفقهية.

منها: حكمه بحرمة بيع ما يعلم البائع أنّ المشتري يصنعه صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي، و إن لم يشترط ذلك في العقد. فانه استدل لذلك بقوله: «لأنه إعانة علي المنكر فيكون قبيحا». «3»

و منها: حكمه بحرمة بيع من لم تجب عليه صلاة الجمعة شيئا ممّن وجبت عليه- من الواجدين للشرائط-

عند وقت النداء. فإنّه استدلّ لذلك بهذه القاعدة، و اعترض به علي الشيخ، حيث حكم بالكراهة مستدلا بها. قال قدّس سرّه:

«قال الشيخ: إنّه يكره لأنّ فيه إعانة علي فعل محرّم و هو يقتضي التحريم؛ لقوله تعالي: و لا تعاونوا علي الإثم و العدوان، و الوجه عندي التحريم في حقه أيضا». «4» قوله (أيضا) إشارة إلي مفروغية حرمة البيع وقت النداء علي من

______________________________

(1) المبسوط: ج 1، ص 251.

(2) المصدر: ج 2، ص 62.

(3) مختلف الشيعة: ج 5، ص 22.

(4) التذكرة/ الطبع الجديد: ج 4، ص 109.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 142

وجبت عليه الصلاة مطلقا.

و منها: تعليله بهذه القاعدة في حكمه بحرمة وقف المال علي معونة أهل الفواحش أو قطّاع الطريق أو شاربي الخمر- و لو كانوا مسلمين- بقوله:

«لأنّ الإعانة علي فعل المعصية معصية». «1» و كذا علّل بذلك لعدم جواز الوقف علي البيع و الكنائس و بيوت النيران. «2» و كذا علل بذلك في المقام المحقق الكركي في جامع المقاصد «3» و الشهيد في المسالك «4»، و كذا في الجواهر. «5»

و كذا علّل في التذكرة بهذه القاعدة لاشتراط كون المنفعة في العارية مباحة؛ حيث قال: «و لا بدّ و أن تكون المنفعة مباحة؛ لتحريم الإعانة علي المحرّم، فلو استعار آنية الذهب و الفضة للأكل و الشرب لم يجز. و لو استعار كلبا للصيد لهوا و بطرا لم يجز و إن كان للقوت أو التجارة جاز- إلي أن قال- و كلّ عين يفرض لها منفعة مباحة و محرّمة فانه يجوز إعارتها لاستيفاء المنفعة المباحة، دون المحرّمة». «6»

و من الفروع المستدل لها بهذه القاعدة حكمهم بعدم جواز بذل المال للعدوّ فيما إذا توقف دفعه

و تخلية سبيل الحج علي البذل؛ حيث اختلفوا في ذلك، فحكم بعضهم بوجوب تخلية السبيل حينئذ ببذل المال تحصيلا للمقدمة الوجودية، و أفتي جماعة بعدم جواز ذلك و سقوط الحج؛ معلّلا بأنّ

______________________________

(1) التذكرة/ الطبع القديم: ج 2، ص 429.

(2) المصدر.

(3) جامع المقاصد: ج 9، ص 47.

(4) المسالك: ج 5، ص 335.

(5) جواهر الكلام: ج 28، ص 35.

(6) التذكرة/ الطبع القديم: ج 2، ص 210.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 143

بذل المال حينئذ إعانة علي الإثم و العدوان و هو حرام. كما صرح بذلك في الحدائق. «1»

و منها: حكمهم بحرمة إعطاء الزكاة إلي ابن السبيل و الضيف فيما إذا كان سفرهما معصية. و علّلوا ذلك بهذه القاعدة، كما صرّح بذلك في الرياض؛ حيث قال: «و لو كان سفرهما معصية منعا من هذا السهم بلا خلاف بين العلماء، كما قيل: لما في ذلك من الإعانة علي الإثم و العدوان». «2» و كذا استدل لذلك بهذه القاعدة في الجواهر. «3»

إلي غير ذلك من مختلف الفروع الفقهية الخارجة عن حدّ الاحصاء في المقام.

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 14، ص 140.

(2) الرياض: ج 5، ص 167.

(3) جواهر الكلام: ج 15، ص 367.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 145

قاعدة حرمة إهانة المحترمات

اشارة

1- عنوان القاعدة في كلمات الفقهاء 2- قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين 3- مدرك القاعدة 4- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 147

عنوان القاعدة في كلمات الفقهاء

قد تعرّض الفقهاء هاهنا إلي كبريين كلّيتين:

إحداهما: كبري حرمة هتك المحترمات.

و ثانيهما: كبري وجوب تعظيم الشعائر.

و إنّهم، و إن كانوا لم يعنونوهما قاعدة فقهية و لم يطلقوا عليهما عنوان القاعدة، إلّا أنّ من تتبع في كلماتهم يجدها مشحونة من الاستدلال بمضمون القاعدة الاولي، بل و الثانية في كلمات بعضهم، بل يستفاد من كلماتهم المفروغية عن حجية هذه القاعدة؛ حيث إنّهم استدلوا بمفاد قاعدة حرمة إهانة المحترمات في مختلف الفروع الفقهية بعناوين و ألفاظ مشابهة لها، مثل حرمة الاستخفاف بحكم اللّه و الاستهانة بحرماته و انتهاكها و تحقير المحترمات و إهانتها و هتك الشعائر. و استدل بعضهم لذلك أيضا بكبري وجوب تعظيم الشعائر، و أنّ هتكها و إهانتها مناف لتعظيمها الواجب. و سيأتي ذكر نماذج من كلماتهم في التطبيقات الفقهية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 148

قاعدة حرمة إهانة محترمات الدين

يقع الكلام تارة: في حرمة إهانة ما هو محترم في الدين، و أخري: في وجوب تعظيم الشعائر الدين. فههنا قاعدتان، نقدّم الكلام في الأولي.

مفاد القاعدة:

المقصود من المحترمات في الدين

كلّ ما هو من مقدّسات الشريعة و معالم الدين، و ما كان من مجعولات الشرع، و ما ورد أمر الشارع باحترامه و تعظيم شأنه، كالكعبة و المساجد الأربعة و ساير المساجد و قبر النبي صلّي اللّه عليه و آله و قبور الائمة عليهم السّلام و ساير المشاهد المشرفة و القرآن و الكتب الروائية و التربة الحسينية، و علماء الدين و فقهاء أهل البيت عليهم السّلام و قبورهم، بل المؤمنين كلّهم حيّهم و ميّتهم، و نحو ذلك مما هو متعلق بالدين و منتسب إلي الشريعة بنحو. و يعبّر عنها بشعائر اللّه و شعائر الدين. و هذه القاعدة تفيد حرمة إهانة هذه

الأمور الدينية المحترمة عند صاحب الشرع، بل كل ما عدّ محترما في الشريعة، حتي الميّت المسلم.

قال في كشف الغطاء في مسألة الاستنجاء: «المحترمات و هي علي أقسام منها: ما يستتبع التكفير فيلزم منه عدم التطهير، كالاستنجاء بحجر الكعبة و ثوبها و كتابة القرآن (كأنه كذا إهانة لا يقصد الشفاء) و أسماء اللّه و صفاته المقصود نسبتها إليه و إن لم تكن مختصّة به و أسماء النبي و كتب الأنبياء و أسمائهم و اثواب عليها اسماء اللّه و ماء غسل به مثلا بقصد الشفاء و ماء زمزم بقصد الاهانة …

و يحتمل إلحاق كتب اخبارنا و الزيارات و الدعوات و نحوها و أسماء

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 149

ائمتنا و التربة الحسينية و ضرائح الائمة و ابعاضها و ابعاض ثيابها و القناديل مع قصد الاهانة … و الظاهر تسرية الحكم إلي اعاظم الصحابة و أكابر الشهداء كالعباس عليه السّلام و باقي شهداء كربلا.

و منها: ما لا يستتبع العصيان و يدخل في جملة المكروهات كالمأخوذ من قبور المؤمنين و ما يحاذيها و ما أخذ للتبرك من ثياب العلماء و الصلحاء و السادات- إلي أن قال- فالمحترمات بين ما يحترم لذاته و ما يحترم باعتبار ما قصد به من الجهات، فقد يرتفع الاحترام بالقصد ككناسة المحترمات و ما نقل من البنيان من التراب و الآلات». «1»

و لا يخفي ما في كلامه من استتباع الاهانة عدم التطهير؛ لما سيأتي من عدم منافاة ذلك مع التطهير.

ثم إنّه لا فرق في المحترمات الدينية المحرّم هتكها بين أن تكون من الذوات و الأعيان كالمأمور المذكورة، و بين أن تكون من الأحكام. فانّ كلّ حكم الهي من أحكام الشريعة يحرم استحقاره

و الاستخفاف و الإهانة به، بلا فرق بين الواجبات و المحرمات، بل و المندوبات، و لا سيما المتخذة منها شعارا للإيمان و الإسلام كصلاة الجماعة و الجمعة و العيد و الاعتكاف.

فإنّ استحقار هذه الشعائر و إهانتها لا ريب في حرمته بمقتضي هذه القاعدة.

نعم مجرد فعل المحرّمات و ترك الواجبات لا يكون من مصاديق هذه القاعدة ما لم يكن عن استحقار و استخفاف، فاذا كان بقصد ذلك يدخل في كبري هذه القاعدة، بل و ترك بعض المندوبات يدخل فيها إذا كان بقصد

______________________________

(1) كشف الغطاء: ج 1، ص 115- 114.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 150

ذلك، كترك صلاة الجماعة و العيد و الاعتكاف عن استحقار و إعراض، فلا إشكال في حرمته إذا كان هتكا و إهانة بهذه المندوبات و نحوها عرفا.

و أمّا الإهانة

فتارة: تتحقق بالفعل الصادر عن الاعراض القلبي و قصد الاهانة، و لو لم يكن الفعل بنفسه مصداقا للإهانة كتخريب المسجد بقصد الاهانة، لا بقصد التعمير و قطع عضو الميت، لا بقصد إنجاء نفس محترمة بترقيع العضو المقطوع من الميت، أو ترك بعض المندوبات كترك الحضور في صلاة الجمعة و الجماعة و العيد و الاعتكاف عن استحقار و استخفاف.

و اخري: بمجرد الفعل و لو لم يقصد به الاهانة. و ذلك في الأفعال التي تعدّ بنفسها من مصاديق الاهانة و الهتك عرفا كإلقاء المصحف علي النجاسة أو خرقه أو الفحش و سبّ الائمة (العياذ باللّه).

فهذه الأفعال بنفسها تعدّ هتكا و إهانة في نظر أهل العرف، من غير حاجة إلي قصد الاهانة و الهتك، إلّا إذا قامت القرينة القطعية علي كون صدورها من غير جهة الهتك، كتخريب المسجد للتعمير أو مسح الظهر أو الاليتين بالضرائح المقدّسة

لأجل الاستشفاء.

و أمّا كون الاهانة و الهتك من العناوين القصدية لا ينافي كون بعض الأفعال بذاته من مصاديق الهتك عرفا؛ حيث من الواضح أنّه لا دخل لقصد الهتك في صدق الاهانة و الهتك علي الأفعال المتمحّضة في الهتك في نظر أهل العرف. فإنّهم يحكمون بصدق الاهانة بمجرد صدور هذه الأفعال من أيّ فاعل من غير انتظارهم لإحراز قصد الهتك من فاعلها.

و هذا بخلاف الأفعال غير المتمحّضة في الهتك؛ حيث لا يحكمون

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 151

بصدق الاهانة ما لم يحرزوا صدورها بقصد الاهانة و الهتك، بل يحملونها علي الأغراض العقلائية و المصالح المعلومة لفاعلها، و هذا من مصاديق الحمل علي الصحة. فهذه الأفعال غير المتحمّضة في الهتك إنّما يتوقف دخولها في عنوان الهتك علي صدورها من فاعلها بقصد الاهانة و الهتك.

و أما الأفعال المتمحّضة في الهتك فيكفي علم فاعلها بأنها متمحّضة في الهتك؛ حيث يصدق حينئذ صدور الهتك منه عمدا.

و الظاهر أنّ قطع عضو الميت و شقّه من هذا القبيل، إلّا أنّ الشارع صرح بحرمة ذلك نفسه في النصوص المعتبرة، اللّهم إلّا أن تحمل هذه النصوص علي الصادر بنية الهتك و الاهانة، و فيه تأمّل؛ لإباء لسان بعض هذه النصوص عن هذا الحمل.

فتحصّل أنّ كل فعل قصد الفاعل به هتك محترمات الدين لا إشكال في حرمته فيما بينه و بين اللّه. كما أنّه لا إشكال في حرمة الأفعال المتمحّضة في الهتك، و لو لم يقصد به فاعله الهتك و الاهانة، فيما إذا أمكن انفكاك قصد الهتك عن مثل هذه الأفعال.

هذا كله في قصد الهتك

و أما قصد أصل عنوان الفعل فلا ريب في دخله في ترتب الحكم؛ لوضوح عدم توجّه التكليف إلي الغافل المحض عن

أصل الفعل. و ذلك مثل أن تلصق نجاسة برجل شخص نائم فحرّك رجله حالة النوم فأصاب وجه ميت مسلم أو ساير أعضاء بدنه، أو كان وجه شخص حال المشي إلي السماء و لم يكن ملتفتا إلي تحت رجله فلصق بها نجاسة أو قذارة فأصاب جسد ميّت مسلم، و نحوه من المحترمات الصادرة غفلة عن أصل الفعل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 152

حاصل الكلام: أنّ مفاد هذه القاعدة تحريم كل فعل يتحقق به إهانة المحترمات في الدين، سواء كان لأجل قصد فاعله الهتك من فعله أو لصدق عنوان الاهانة علي فعله عرفا.

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بوجوه:

الأول: حكم العقل:

بتقريب أنّ العقل يحكم باستحقاق العبد للذم و العقاب باستخفافه و إهانته بما هو محترم عند مولاه؛ حيث يري ذلك من العبد خروجا عن رسم العبودية و طغيانا علي مقام المولوية و كفرانا للنعمة.

الثاني: الإجماع و الضرورة

: و قد صرّح بذلك المحقق النراقي بقوله: «قد ثبت بالعقل و النقل حرمة الاستخفاف و الإهانة بأعلام دين اللّه مطلقا و انعقد عليه الاجماع، بل الضرورة». «1»

أما الاجماع فلاتفاق جميع العلماء علي حرمة إهانة مقدسات الشريعة و لم يسمع مخالف منهم. و لم يستدلوا لإثبات هاتين الكبريين بنص من الكتاب و السنة في كلماتهم ليكون مدركيا. و لا يحتمل استنادهم إلي نصّ خاص في ذلك و إلّا لا نشير إلي ذلك النص في كلام واحد منهم.

نعم يحتمل استنادهم إلي حكم العقل، و لكن من البعيد التفاتهم و عنايتهم إلي حكم العقل في حكمهم بذلك. و أما الضرورة فلأنّ حرمة ذلك من المسلّمات عند الفريقين و مورد اتفاق جميع أهل الإسلام و مرتكز في

______________________________

(1) عوائد الايام: ص 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 153

أذهان جميع المسلمين.

الثالث: ما دلّ من نصوص الكتاب و السنة

اشارة

علي تحريم إحلال شعائر اللّه و نقض حريم معالم الدين و التعدّي عن حرمات اللّه، و حرمة إهانة الأنبياء و الأوصياء و الأولياء و العلماء و قبورهم، و حرمة هتك القرآن و المساجد و الكعبة، و حرمة تنجيسها، و ما دلّ من النصوص علي أنّ حرمة الميّت المسلم كحرمته حيّا. و قد علّل بذلك في هذه النصوص حرمة قطع أعضاء الميّت، فيستفاد منها كبري كلية و هي قاعدة حرمة إهانة مقدسات الشريعة و محترمات الدين. فإنّ تعليل تحريم قطع أعضاء الميت في هذه النصوص بأنّ له حرمة كحرمة الحي يدلّ علي أمرين، أحدهما: كون تحريم قطعها لأجل كونه هتك حرمة الميت، ثانيهما: كبري حرمة هتك كل ما هو محترم عند الشارع.

أمّا الكتاب:

فقوله تعالي: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ». «1» هذه الآية و إن فسّرت بتحريم المخالفة العمليّة لأحكام الدين و التعدي عن حدود اللّه بترك الواجبات و فعل المحرمات، إلّا أنّها تدل بمفهوم الفحوي علي حرمة إهانة شعائر اللّه و الاستخفاف بحرماته؛ لما فيه من و هن الدين و انتهاك حرمة اللّه و الشريعة و القرآن و النبي صلّي اللّه عليه و آله، بل يمكن أن يقال إنّ ذلك من أبرز مصاديق إحلال شعائر اللّه و إباحة حرماته.

هذا، مع أنّ لفظ الاحلال في أصل اللغة جاء لمعان كإنزال الشي ء و إهباطه من مكانه، و جعل الشي ء حلالا، و الحلول في شي ء، و فتح الشي ء بالمعني المضادّ للغلق. و المعني المناسب للآية أحد المعنيين الأولين.

______________________________

(1) المائدة: 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 154

فعلي المعني الأوّل يكون معني الآية: لا تنزلوا شعائر اللّه و لا تهبطوا معالم الدين عن مكانتها المقدسة

المحترمة في الشريعة، و إنّ من أبرز مصاديق إنزال شعائر اللّه و إهباط معالم الدين عن مكانتها إهانتها و تحقيرها و هتكها.

و علي المعني الثاني: يكون المقصود لا تبيحوا ما حرّمه إلّا بارتكابها و لا ما أوجبه اللّه بتركها، و بعبارة أخري لا تجعلوا المحرمات و الواجبات حلالا مباحا بمخالفتها. فيكون النهي عن إحلالها حينئذ كناية عن المنع عن مخالفة أحكام اللّه و التعدي عن حدوده بفعل المحرمات و ترك الواجبات.

و لكن المعني الأوّل هو الأنسب؛ لعدم حاجته إلي التقدير، و ليس ذلك بيد العبد، فلا مناص من الكناية و التقدير علي هذا الوجه.

أما الشعائر فسيأتي أنّها معالم الدين و علائم الشريعة و آثارها و متعبّدات اللّه، و كل ما يعبد اللّه فيه من الأماكن المقدسة و المشاهد المشرّفة أو يعبد به اللّه، كالأنبياء و الأئمة و الكتب السماوية و كتب الأحاديث؛ حيث يطاع اللّه و يعبد بطاعة الأوامر و النواهي الصادرة عن الأنبياء و الأولياء و امتثال ما ورد من أحكام اللّه في القرآن و كتب الأحاديث.

و أما الحرمات جمع الحرمة، و هي في الأصل بمعني المنع. و عليه فلفظ الحرمات في أصل اللغة بمعني الممنوعات و الشي ء المحترم سمي بذلك بلحاظ منع التعدي إليه و كذا الحريم و الحرام.

و عليه فالمقصود من الحرمات الممنوعات من الأشياء و الأفعال و المحرمات منها، بل يمكن تعميمها إلي كل ما هو محترم في الدين بلحاظ منع التجاوز و التعدّي إليه و من أبرز مصاديق ذلك الهتك و إهانته.

فاتضح بما قلنا وجه الفرق بين الشعائر و بين الحرمات، فإنّ الشعائر

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 155

ليست من الممنوعات و المحرمات بل هي محال عبادة

اللّه و مصادر طاعته و أعلام دينه. و أما الحرمات فإمّا هي خصوص المحرّمات، و إمّا هي مطلق المحترمات و عليه فهي أعم من الشعائر مطلقا؛ إذ الشعائر كلها من المحترمات و لكن ليس كل ما هو محترم في الدين من شعائر اللّه كالمتخذ بقصد الشفاء و قبور المؤمنين و فقراء المؤمنين و أمواتهم.

أما السنة:

فقد تعرّضت نصوص كثيرة لكبري هذه القاعدة بألسنة و تعابير مختلفة.

ففي طائفة علّل بهذه الكبري تحريم بعض الكبائر، مثل ما ورد في تعليل تحريم الفرار من الزحف بها رواية الصدوق باسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «حرّم اللّه الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل و الأئمة العادلة». «1» و ما ورد في تعليل تحريم الربا فيما رواه بهذا الاسناد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في حديث: «و علة تحريم الربا بعد البيّنة لما فيه من الاستخفاف بالمحرم الحرام … و تحريم اللّه عز و جل لها لم يكن ذلك منه، إلّا استخفافا بالمحرّم الحرام و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر». «2» فان استدلاله عليه السّلام لتحريم الفرار من الزحف بأنّ فيه الوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل بعد الفراغ عن كبري حرمة كل موجب للوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل بعد الفراغ عن كبري حرمة كل موجب للوهن في الدين و الاستخفاف بالرسل. و هذه الكبري هي مفاد هذه القاعدة.

و لا يخفي أنّ الاستخفاف ليس معناه الهتك و الاهانة، نعم قد يكون علي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 11، ص 65، ب 29 من أبواب جهاد العدو ح 2.

(2) وسائل الشيعة: ج 12، ص 426، ب 1 من الربا، ح 11.

مباني الفقه الفعال في

القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 156

نحو يستلزم الاهانة في نظر أهل العرف.

و في طائفة أخري: تفهم هذه القاعدة من تعليل حرمة بعض الأفعال بثبوت الحرمة للشخص أو الشي ء الذي يقع ذلك الفعل عليه أو فيه.

و من هذه الطائفة نصوص علّل فيها الامام عليه السّلام بأنّ حرمة الميت كحرمة الحي، و أنّ حرمته ميتا أعظم من حرمته و هو حيّ في جواب السؤال عن حكم قطع عضو الميت و كسر عظمه؛ حيث إنّه ظاهر في التعليل.

من هذه النصوص صحيح مسمع كردين، قال: «سألت أبا عبد اللّه عن رجل كسر عظم ميّت؟ فقال عليه السّلام: حرمته ميتا أعظم من حرمته و هو حيّ». «1»

و مثله مرسل ابن سنان «2» و كذا تعليله عليه السّلام بذلك لوجوب دفن الميت و مواراته في حديث العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في بئر محرج وقع فيه رجل فمات فيه فلم يمكن إخراجه من البئر، أ يتوضّأ في تلك البئر؟ قال عليه السّلام: لا يتوضّأ فيه يعطّل و يجعل قبرا، و إن أمكن إخراجه أخرج و غسل و دفن.

قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: حرمة المسلم ميّتا كحرمته و هو حيّ سواء». «3»

فانّ صحة تعليله عليه السّلام لمنع قطع عضو الميت و كسر عظمه أو لوجوب غسله و كفنه و دفنه بأنّ له حرمة في نظر الشارع فرع المفروغية عن ثبوت كبري حرمة إهانة كل ماله حرمة في نظر الشارع، و إلّا لم يصح تعليل ذلك بأنّ للميّت حرمة، كما أنّ من الواضح المعلوم بمناسبة التعليل و مقتضي سياق الكلام أنّ وجه المنع كون قطع عضو الميت و كسره إهانة بشأنه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19، ص 251،

ب 25 من ديات الاعضاء، ح 5.

(2) راجع الوسائل: ج 19، ص 249، ب 25 من ديات الأعضاء، ح 2.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 875، ب 51 من الدفن، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 157

و هتكا لحرمته، و إلّا لم يصح تعليل تحريم قطع عضو الميت و كسر عظمه أو وجوب دفنه بأنّ له حرمة كحرمة الحي.

و لا يخفي أنّ المقصود من حرمة الميّت المسلم كونه محترما في نظر الشارع، و من هنا يصلح التعليل بذلك لحرمة قطع عضوه و كسر عظمه؛ حيث إنّه هتك حرمته، و يحرم الإهانة بكل ماله حرمة في نظر الشارع.

و منها: ما علّل فيه تحريم القتال في الأشهر الحرم بحرمة هذه الشهور.

فكأنّ القتال فيها هتك و إهانة بشأنها. و مثله ما علل فيه حرمة الجماع في شهر رمضان بحرمة هذا الشهر.

و منها: ما علّل فيه تحريم مخالفة حكم الفقيه الشيعي بأنه استخفاف بحكم اللّه ورد عليه تعالي. كما في مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال:

«ينظران من كان منكم ممن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فانّي قد جعلته عليكم حاكما، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا الراد علي اللّه، و هو علي حد الشرك باللّه». «1»

و منها: ما علّل فيه حرمة الاهانة بالمؤمن و تحقيره بأنّ له الحرمة، و أنّ الاستخفاف به تضييع حرمة اللّه و استخفاف بحرمته تعالي، مثل ما رواه الكليني بسنده في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«قال لنفر عنده و أنا حاضر: ما

لكم تستخفّون بنا؟ قال: فقام إليه رجل من خراسان فقال: معاذ لوجه اللّه أن نستخفّ بك أو بشي ء من أمرك، فقال عليه السّلام: بلي إنّك أحد

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 99، ب 11 من صفات القاضي، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 158

من استخف بي، فقال: معاذ لوجه اللّه أن أستخف بك، فقال عليه السّلام له: ويحك أ لم تسمع فلانا و نحن بقرب الجحفة و هو يقول لك: احملني قدر ميل فقد و اللّه عييت، اللّه ما رفعت به رأسا لقد استخففت به، و من استخفّ بمؤمن فبنا استخف و ضيّع حرمة اللّه عزّ و جلّ». «1»

و ما رواه الصدوق مرسلا عن النّبيّ صلّي اللّه عليه و آله:

«ألا و من استخفّ بفقير مسلم فلقد استخفّ بحق اللّه و اللّه يستخف به يوم القيامة، إلّا أن يتوب». «2»

و ما رواه بسنده في عقاب الأعمال: «و من أهان فقيرا مسلما و استخف به فقد استخف بحق اللّه و من أهان فقيرا مسلما من أجل فقره و استخف به فقد استخف بحق اللّه و لم يزل في مقت اللّه و سخطه حتي يرضيه». «3»

و في طائفة ثالثة: تستفاد هذه القاعدة من تعلق المنع و النهي بمطلق ما يستخف به دين اللّه تعالي.

فمن هذه الطائفة: ما رواه الصدوق باسناده عن علي بن أبي طالب عليه السّلام قال سمعت رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله:

«إنّي أخاف عليكم استخفافا بالدين». «4»

فدلّ علي حرمة كل قول و فعل موجب للاستهانة و الاستخفاف بدين اللّه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 8، ص 592، ب 148 من أحكام العشرة، ح 1 و فروع الكافي: ج 8، ص 102 ح

73.

(2) أمالي الصدوق: ص 514 و من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 13.

(3) وسائل الشيعة: ج 8، ص 590، ب 146 من أحكام العشرة، ح 10 و ثواب الأعمال: ص 283.

(4) عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 46، و الوسائل: ب 99 مما يكتسب به ح 18.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 159

و إلّا لم يكن محلّ خوف و من أبرز مصاديقه الهتك و إهانة ما هو محترم في الدين.

و منها: ما رواه في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السّلام: «من استهان لحرمة فقد هتك ستر ايمانه». «1»

و منها: ما رواه الشيخ المفيد و الشيخ الطوسي بسندهما عن النبي صلّي اللّه عليه و آله:

«إن اللّه قد حدّد لكم حدودا و حرّم عليكم حرمات فلا تنتهكوها» «2»، إلي غير ذلك من النصوص المتظافرة يجدها المتتبع في مظانّها.

ثم إنّ مفاد هذه القاعدة من قبيل الحكم، و هو حرمة الاهانة و الهتك.

التطبيقات الفقهية

و أما مجاريها و تطبيقاتها الفقهية فهي أكثر من أن تحصي، و نشير هاهنا إلي بعضها.

منها: ما حكم به العلامة في التذكرة «3» من منع كشف العورة في المساجد. و علّل ذلك بقوله: «لما فيه من الاستخفاف بالمساجد». و كذا علّل بذلك المحقق في المعتبر بقوله: «لأنّ ذلك استخفاف بالمسجد و هو محلّ وقار». «4» و مقصوده ما إذا لم يكن أحد في المسجد و إلّا يحرم مطلقا.

و منها، ما قال الوحيد البهبهاني قدس سرّه: «لا يجوز أن يباع و يشتري للكافر؛

______________________________

(1) مصباح الشريعة/ المنسوب إلي الامام الصادق 7: ص 70، الباب الثلاثون.

(2) مستدرك الوسائل: ج 18، ص 11، و أمالي الشيخ المفيد: ص 159 و أمالي الشيخ الطوسي:

ص 511 و بحار

الأنوار: ج 2، ص 263.

(3) التذكرة/ طبع آل البيت: ج 2، ص 431.

(4) المعتبر/ طبع مدرسة الامام أمير المؤمنين: ج 2، ص 543.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 160

لأنه استخفاف، و لأنّ الظن حاصل بأنّ الكافر يستخفّ بالقرآن و يستهين». «1»

و منها: ما حكم به المحقق الكركي قدس سرّه، من جعل الألفاظ و التعابير الدالّة علي الاستهانة في الدين من الالفاظ الموجبة للارتداد؛ حيث قال قدس سرّه: «و أما ألفاظ الردّة و العياذ باللّه، فمنها: الاستهانة في الدين و الاستهزاء بالشرع و نحو ذلك». «2»

و منها: تعليل الشهيد الثاني منع الاستهانة بالمطعوم بأنه من المحترمات؛ حيث قال: «و من المحترم المطعوم؛ لأنّ له حرمة تمنع من الاستهانة به». «3»

و قد نقل هذا التعليل في المدارك «4» عن المحقق في المعتبر و وافقه فيما ثبت احترامه مع المطعومات بالفعل.

و منها: تعليل جماعة من الفقهاء منع غسل الجنابة و الاستحاضة في المسجد علي وجه لا تتعدّي النجاسة إلي المسجد بأنّ فيه الاستهانة المنافية لاحترام المسجد، كما نقله في المدارك. «5»

و يمكن المناقشة فيه أولا: بأنّ غسل الجنابة في المسجد يتوقف علي دخول الجنب في المسجد و هو حرام بلا حاجة إلي التعليل بالاستخفاف.

و ثانيا: بأن يتحقق الاستخفاف و صدق إهانة المسجد عرفا بمجرد الغسل فيه غير معلوم.

و منها: ما يستفاد من كلام صاحب الجواهر من الحكم بحرمة

______________________________

(1) حاشية مجمع الفائدة: ص 95.

(2) رسائل الكركي: ج 2، ص 260.

(3) روض الجنان/ طبع مؤسسة آل البيت: ص 24.

(4) المدارك: ج 1، ص 173.

(5) مدارك الأحكام: ج 6، ص 333.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 161

الاستنجاء بكلّ ما ثبت فيه جهة احترام في الشرع؛

لما في ذلك من الهتك و إهانة محترمات الدين.

قال قدّس سرّه: «و الحاصل كل ما ثبت فيه جهة احترام من الشرع جري عليه الحكم و إن لم يكن مطعوما بالفعل،- إلي أن قال- ثم إنّه يفهم من كثير من الأصحاب بل لم أعثر فيه علي مخالف جريان الحكم في كل محترم، كالتربة الحسينية و غيرها و ما كتب اسم اللّه و الأنبياء و الائمة أو شي ء من كتاب اللّه عليه، بل قد يلحق به كتب الفقه و الحديث و نحوها، بل قد يتمشي الحكم في المأخوذ من قبول الائمة من تراب أو غيره، بل قد يلحق بذلك المأخوذ من قبور الشهداء و العلماء بقصد التبرك و الاستشفاء دون ما لا يقصد، إذ الأشياء منها ما ثبت وجوب احترامها من غير دخل للقصد فيه، و منها ما لا يثبت له جهة الاحترام إلّا بقصد آخذ متبركا أو مستشفيا به، و منها ما يؤخذ من الاناء من طين كربلاء و غيرها، فانه لا يجري عليه الحكم إلّا إذا أخذ بقصد الاستشفاء و التعظيم و التبرك. لكن هل استمرار القصد شرط في ذلك أو يكفي تحقق القصد أو لا؟ إشكال.

هذا، و لا يخفي أنّه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه أن يتطلب الدليل علي كل شي ء بخصوصه من رواية خاصة و نحوها، بل يكتفي بالاستدلال علي جميع ذلك بما دل علي تعظيم شعائر اللّه، و بظاهر طريقة الشرع المعلومة لدي كل أحد، أ تري يليق به أن يتطلب رواية علي عدم جواز الاستنجاء بشي ء من كتاب اللّه.

ثم ليعلم إنّ ما ذكرنا من حرمة الاستنجاء بالمحترم إنّما هو حيث لا يكون مع قصد الاهانة، و إلّا فقد

يصل فاعله بالنسبة إلي بعض الاشياء إلي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 162

حد الكفر و العياذ باللّه». «1»

هذا الكلام أحسن ما قيل في المقام من جهة اشتماله علي نكات نافعة و ظرائف دقيقة و مطالب جامعة في المقام.

و لكن يمكن المناقشة فيما جاء في ذيل كلام من الاكتفاء بما دل علي وجوب تعظيم شعائر اللّه لإثبات حرمة الاستنجاء بكلّ ماله احترام في الشرع.

و ذلك أولا: لعدم إثبات وجوب تعظيم الشعائر بدليل.

و ثانيا: لعدم كون كل محترم في الدين من قبيل شعائر اللّه.

و منها: تعليل حرمة الاستهانة بالخبز و المائدة بأنهما من المحترمات.

قال في الجواهر: «و لعلّ أعظم أسباب حلول النقم و تحويل النعم احتقار النعمة و الاستهانة بجلائل النعم التي أنعم اللّه بها علي عباده خصوصا الخبز فقد أمرنا باكرامه و تعظيمه … و كذا الاستهانة بالمائدة و وطئها بالرجل … ». «2»

و منها: ما يستفاد من كلام صاحب الجواهر أيضا من أنّ هاتين القاعدتين عمدة دليل حرمة تنجيس المحترمات، بل صرّح بأنه لا دليل لذلك غيرهما؛ حيث قال: «لا دليل يعتمد عليه في وجوب تجنيب هذه الامور المحترمة، النجاسات و نحوها، غير وجوب التعظيم و الاحترام و حرمة التحقير و الاهانة». «3»

و منها: ما صرّح المحقق الأردبيلي بأن ترك السنن أجمع ليس بحرام

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 2، ص 51- 52.

(2) جواهر الكلام: ج 12، ص 1290.

(3) جواهر الكلام: ج 4، ص 224.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 163

و لا فسق و لا بترك مروّة إلّا أن يؤول إلي الاستخفاف بالسنن و عدم المبالات بسنن النبي صلّي اللّه عليه و آله فهو فسق بل كفر. «1»

و منها: ما نقله

الشيخ في المكاسب «2» عن شارح النخبة أنّ ما كان من الطلسمات مشتملا علي استهانة بشي ء من حرمات اللّه- كالقرآن و أبعاضه و أسماء اللّه الحسني و نحو ذلك- فهو حرام بلا ريب.

و منها: تعليل الفقيه المحقق السيد الحكيم لوجوب إخراج المحترمات من بيت الخلاء و البالوعة و نحوها في ذيل كلام صاحب العروة بقوله: «لما عن التنقيح من أنّه ورد متواترا وجوب تعظيمها و ترك الازالة مناف للتعظيم». «3»

و لكن أشكل عليه بقوله: «هذا، و لكن الذي عثرنا عليه من النصوص مما تضمن الأمر بتعظيمها و النهي عن الاستخفاف بها، ظاهر بقرينة السياق و المقام في اعتبار ذلك في الانتفاع بها في الاستشفاء و غيره من فوائدها الجليلة، و ليس فيها دلالة علي أنّ ذلك من أحكامها مطلقا. نعم لا مجال للإشكال في حرمة إهانتها و مبغوضية هتكها، فيكون حكمها حكم المشاهد الشريفة، لا المصحف». «4»

و منها: ما علّل لذلك بهذه القاعدة (أي حرمة الاهانة و هتك المحترمات) المحقق الفقيه السيد الخوئي؛ حيث علّل وجوب إزالة النجاسة عن

______________________________

(1) مجمع الفائدة: ج 13، ص 403.

(2) المكاسب/ تحقيق لجنة التحقيق/ طبع مطبعة باقري: ص 226.

(3) المستمسك: ج 1، ص 518.

(4) المستمسك: ج 1، ص 518.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 164

المحترمات بقوله: «و ذلك لأنّ المناط في الحكم بوجوب الازالة و حرمة التنجيس ليس هو مجرد تنجيس التربة أو الكتاب أو غيرهما من المحترمات ليحكم بجواز إلقاء النجاسة عليها إذا كانت متنجسة قبل ذلك بدعوي أنّ المتنجس لا يتنجس ثانيا، بل هناك أمر آخر أيضا يقتضي الحكمين المتقدمين و هو لزوم الهتك و المهانة من تنجيسها، و لا يفرق في ذلك بين طهارة

المحترم و نجاسته. فان التربة أو الورق بعد ما تنجست بوقوعها في البالوعة إذا ألقيت عليها النجاسة يعد ذلك هتكا لحرمتها و كلما تكرر الالقاء تعدد الهتك و المهانة و كل فرد من الاهانة و الهتك حرام في نفسه و عليه فلو أمكن إخراجها من البالوعة وجب و لو ببذل الأجرة عليه». «1»

و لكنه قدس سرّه ردّ الاستدلال بقاعدة وجوب تعظيم الشعائر لوجوب إزالة النجاسة عن المشاهد المشرفة و منافاة ترك الازالة لتعظيم الشعائر؛ بدعوي عدم دليل علي وجوب تعظيم الشعائر مطلقا. و إنّما التزم به بوجوبه في الجملة معلّلا بأنه لا دليل علي وجوب التعظيم بجميع مراتبه.

قال قدس سرّه: «و دعوي أنّ ترك الازالة ينافي تعظيم شعائر اللّه سبحانه و تعظيمها من الواجبات و قد قال عز من قائل: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ، يدفعها أولا: أنّ تعظيم الشعائر علي إطلاقها لا دليل علي وجوبه. كيف، و قد جرت السيرة علي خلاف ذلك بين المتشرعة، نعم نلتزم بوجوبه فيما دل الدليل عليه و لا دليل عليه في المقام. و ثانيا: أنّ التعظيم لا يمكن الالتزام بوجوبه بماله من المراتب كما إذا رأينا في الرواق الشريف شيئا من القذارات الصورية- كما في أيام الزيارات- فانّ إزالتها مرتبة من

______________________________

(1) التنقيح: ج 2، ص 319.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 165

تعظيم الشعائر و الالتزام بوجوبه كما تري». «1»

و لا يخفي ما في تمثيله بالقذارات الصورية من الإشكال؛ لأنّ بعض أنواعها كأخلاط المصدر أو ما خرج من المعدة بالقي ء أو بعض الكثافات المتعفّنة، يمكن دعوي كون ترك إزالتها عن حرم المشاهد أو عن رواقها الشريف من مصاديق الهتك و الإهانة عرفا،

كما أنّ ترك إزالة بعض القذارات غير الصورية من المتنجسات- كالماء المتنجسة بقطرة بول مثلا- يشكل الالتزام بكونه من مصاديق الهتك و الإهانة في نظر العرف المحكّم في تشخيص مصداق الإهانة و الهتك.

و قد صرح هذا العلم في موضع من كلامه أنّه لا إشكال في حرمة هتك الشعائر. «2» و علل وجوب تطهير المصحف، و لو بغير إذن مالكه بحرمة انتهاك حرمات اللّه فيما إذا كان بقاؤه علي النجاسة مستلزما لذلك. «3»

إلي غير ذلك من موارد هذه القاعدة في مختلف الفروع الفقهية.

و لكن هاهنا نكتة لا ينبغي الغفلة عنها

و هي أنّ الفروع التي استدلّ الفقهاء لها بهذه القاعدة و إن كانت غالبا في باب الطهارة و لكن لا اختصاص لها بذلك، بل تجري في كل فعل يعد في نظر العرف إهانة بمقدسات الشريعة و هتكا بمحترمات الدين، كما في ضروريات الدين، مثل حرمة الربا و وجوب الستر و الحجاب و حرمة الغناء و الملاهي و القمار، و ولاية الأئمة و الفقيه، و حياة صاحب الأمر (عج) و إمامته و ولايته الفعلية علي جميع البشر، بل علي كلّ عالم الوجود و نظام التكوين.

______________________________

(1) التنقيح: ج 2، ص 313.

(2) التنقيح: ج 2، ص 312.

(3) المصدر: ص 327.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 166

فانّ كل فعل و عمل يفهم منه عرفا تحقير هذه الضروريات الشرعية و المقدسات الدينية لا ريب في حرمته؛ لدخول ذلك كله في نطاق هذه القاعدة، سواء كان من الأفعال المعنونة بالاهانة و الهتك بذاتها كالاستهزاء بأمر محترم من محترمات الدين و استحقاره بقول موهن، أو بايجاد هيئة أو حركة توجب هتك بعض مقدّسات الشريعة، أو من الأفعال الداخلة في الاهانة بسبب

قصد الهتك باتيانها. و ذلك مثل قطع أعضاء جسد الميت أو شقّ بطنها بقصد الاهانة، بل ترك بعض المندوبات بقصد ذلك، كترك صلاة الجماعة و الجمعة و الاعتكاف عن استحقار و استخفاف. و سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه.

و أما عدم تعرض الفقهاء لهاتين القاعدتين بعنوان قاعدة فقهية، فالوجه فيه أنه لم يستقرّ دأبهم علي استخراج القواعد و الكبريات الكلية من النصوص و الفتاوي. و لذا لم يتعرّضوا لها بعنوان قواعد عامة فقهية، كما جرت عادة المعاصرين.

و أما عند المعارضة مع ساير الأدلة، فلا ريب في تحكيم هذه القاعدة علي جميع الأدلة الأولية؛ نظرا إلي مالها من الأهمية عند الشارع. و ذلك مثل الاتيان بصلاة الفرادي في مسجد أقيمت فيه جماعة بامامة الامام المعصوم، بل كل إمام، أو جعل القدم علي المصحف الشريف حين الصلاة، فلا ريب في بطلان الصلاة حينئذ؛ لأنّ الاحترام بساحة الشرع و حفظ حرمة مقدسات الشريعة و شعائر الدين روح العبادات و أساس الطاعات. و كذا الاتيان بسائر الواجبات إذا أوجب الاهانة و هتك حرمة ما هو محترم في الدين و مقدس في الشريعة. و لا بد من ملاحظة الأهمية فاذا كانت في أيّ جانب يجب مراعاتها.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 167

قاعدة حرمة الميّت المسلم

اشارة

1- مفاد القاعدة 2- مدرك القاعدة 3- مجري القاعدة و تطبيقاتها 4- حالها مع معارضة ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 169

مفاد القاعدة

هذه القاعدة تفيد حرمة كلّ فعل يكون هتكا بشأن الميّت المسلم و إسقاطا لحرمته، كقطع عضو من أعضاء جسده أو إلقائه في محل الكثافات أو إلقاء النجاسة و الكثافة علي جسده. و نحو ذلك من مصاديق الهتك.

ثم إنّ ما يتحقق به الاهانة و الهتك يمكن تقسيمه إلي قسمين.

أحدهما: ما يحقّق الهتك و الاهانة بنفسه و ذاته سواء قصد به الهتك أم لا، كإلقاء الميت في البالوعة و محل الكثافات أو إلقاء القذارة و النجاسة عليه، أو سبّه و لعنه و فحشه و تعييره و هجائه، و نحو ذلك من الأفعال التي تعدّ بنفسها هتكا و إهانة في نظر أهل العرف من غير دخل لقصد الهتك في صدق ذلك.

ثانيهما: ما لا يحقّق الهتك و الاهانة بنفسه، بل إنّما يكون هتكا و إهانة إذا قصد فاعله الهتك بفعله، كجعله في مكان فريدا أو إجارة الحمّال لحمله من غير أن يحمله أولياؤه أو التأخير في دفنه، و نحو ذلك من الأفعال التي لا تكون بنفسها من مصاديق الاهانة و الهتك في نظر أهل العرف، إلّا أن يحرزوا أنها صدرت بقصد الاهانة و الهتك.

و من الواضح أنّه لا دخل لقصد الهتك في صدق الاهانة و الهتك علي الأفعال المتمحّضة في الهتك في نظر أهل العرف. فإنّهم يحكمون بصدق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 170

الاهانة بمجرد صدور هذه الأفعال من أيّ فاعل من غير انتظارهم لإحراز قصد الهتك من فاعلها، بخلاف الأفعال غير المتمحّضة في الهتك؛ حيث لا يحكمون بصدق الاهانة

ما لم يحرزوا صدورها بقصد الاهانة و الهتك، بل يحملونها علي الأغراض العقلائية و المصالح المعلومة لفاعلها، و هذا من مصاديق قاعدة الحمل علي الصحة.

و لعلّ قطع عضو الميت و شقّه من هذا القبيل، إلّا أنّ الشارع صرّح بحرمة ذلك في النصوص المعتبرة، اللّهم إلّا أن تحمل هذه النصوص علي الصادر بنية الهتك و الاهانة، و فيه تأمّل؛ لإباء لسان بعض هذه النصوص عن هذا الحمل. فاذا لم يكن قطع أعضاء الميت و تشريحها إهانة بالميت في نظر العرف لما تترتب عليه من الغرض العقلائي، فهل يدخل في مفاد القاعدة أم لا؟ فسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

فتحصّل أنّ كل فعل قصد الفاعل به هتك الميّت المسلم لا إشكال في حرمته فيما بينه و بين اللّه. كما أنّه لا إشكال في حرمة الأفعال المتمحّضة في الهتك، و لو لم يقصد به فاعله هتك الميت، فيما إذا أمكن انفكاك قصد الهتك عن مثل هذه الأفعال.

هذا كله في قصد الهتك، و أما قصد أصل عنوان الفعل فلا ريب في دخله في ترتب الحكم؛ لوضوح عدم توجّه التكليف إلي الغافل المحض عن أصل الفعل، كأن لصق نجاسة برجل شخص نائم فحرّك رجله حالة النوم فأصاب وجه ميت مسلم أو ساير أعضاء بدنه، أو كان وجه شخص حال المشي إلي السماء و لم يكن ملتفتا إلي تحت رجله فلصق بها نجاسة أو قذارة فأصاب جسد ميّت مسلم و نحوه من المحترمات غفلة عن أصل الفعل.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 171

و حاصل الكلام: أنّ مفاد هذه القاعدة تحريم كل فعل يتحقق به إهانة الميت المسلم، سواء كان لأجل قصد فاعله الهتك من فعله أو لصدق عنوان

الاهانة علي فعله عرفا. و لا فرق بين كون الفعل الموجب للهتك في جسده، كقطع أعضائه و إلقائه في الكثافة أو إلقاء النجاسة و القذارة عليه، أو كان الفعل مما يوجب الهتك و إهانة شأنه و شخصيته، كالفحش و السب و الهجاء و التعيير.

و من الواضح أنّ هذه القاعدة تفيد حكما من الأحكام الشرعية و هو حرمة إهانة الميت المسلم و وجوب احترامه. و لا تفيد اعتبار أمارة و لا أصلا عمليا، كما هو واضح.

مدرك القاعدة

اشارة

إنّ حرمة الميت المسلم ثابتة بالإجماع و السيرة و الضرورة و النصوص.

أما الاجماع:

فيمكن تحصيله بالفحص عن كلمات الفقهاء، من القدماء و المتأخرين؛ حيث أفتوا في مختلف الفروع بحرمة كل فعل موجب لهتك الميت المسلم و إهانته، سواء كان فعلا في جسده، أو كان ممّا يوجب الاهانة و هتك شخصيته و ساحته، بلا فرق بينه و بين الحيّ المسلم في وجوب الاحترام و حرمة الاهانة و الهتك.

و أما الضرورة:

فلكون ذلك مورد اتفاق الفريقين، و مرتكزا في أذهان المسلمين؛ حيث يرون لميت المسلم تقدّسا و حرمة في الشريعة و يعتقدون أنّ هتكه و إهانته خلاف الشرع.

و أما السيرة:

فلاستقرار سيرة المتشرعة علي احترام الميت المسلم و الاجتناب عن هتكه، بل يرون من أهان الميت المسلم و هتك حرمته خارجا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 172

عن ربقة الايمان.

و أما النصوص:

فقد دلّت عدة من النصوص البالغة حدّ الاستفاضة، بل التواتر علي وجوب احترام الميت المسلم و أنّ حرمته حيّا و ميتا علي حد سواء، بل دلّ بعض النصوص علي أنّ حرمته ميتا أعظم من حرمته حيا.

و هي بمجموعها تدل علي حرمة كل فعل بالميت يوجب هتك حرمته.

و لا يخفي أنّ محل الكلام هو الحرمة التكليفية.

و قد ورد النهي في هذه النصوص عن قطع أعضائه و أمر فيها بوجوب دفنه و مواراته.

فمن هذه النصوص حسنة الحسين بن خالد أو معتبرته.

رواها في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن حفص عن الحسين بن خالد، قال:

«سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن رجل قطع رأس رجل ميّت. فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم منه ميّتا كما حرّم منه حيّا، فمن فعل بميّت فعلا يكون في مثله اجتياح نفس الحي فعليه الدية. فسألت: عن ذلك أبا الحسن عليه السّلام فقال: صدق أبو عبد اللّه عليه السّلام. هكذا قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله». «1»

لا كلام في سند هذه الرواية إلّا من جهة الحسين بن خالد و الظاهر أنّه الحسين بن خالد الخفّاف لانصراف الاطلاق إليه، لا إلي الصير في؛ لقلّة روايته في الأحكام و عدم كتاب له. و أمّا اتحادهما فهو خلاف ظاهر ما عنونه البرقي في طبقة واحدة تارة: بالحسين بن خالد، و أخري: بالحسين بن خالد الصير في؛ حيث ذكرهما معا في عداد من أدرك الامام الكاظم

عليه السّلام من

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19، ص 247، ب 24 من ديات الاعضاء، ح 2 و فروع الكافي: ج 7، ص 349، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 173

أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام. «1»

و منها: صحيحة صفوان قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «أبي اللّه أن يظنّ بالمؤمن إلّا خيرا، و كسرك عظامه حيّا و ميّتا سواء». «2»

و منها: صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في رجل قطع رأس الميت. قال عليه السّلام: عليه الدية؛ لأنّ حرمته ميّتا كحرمته و هو حيّ». «3»

و منها: صحيحة عبد اللّه بن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل قطع رأس الميت. قال عليه السّلام:

«عليه الدية لأنّ حرمته ميتا كحرمته و هو حيّ». «4»

هذه الرواية صحيحة بطريق الصدوق؛ لصحة سنده إلي ابن مسكان.

و منها: صحيحة جميل عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال عليه السّلام: «قطع رأس الميت أشدّ من قطع رأس الحيّ». «5»

و منها: صحيح مسمع كردين: «قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل كسر عظم ميّت. فقال عليه السّلام: حرمته ميتا أعظم من حرمته. و هو حي». «6»

و إنّ هاتين الصحيحتين صريحتين في أنّ الميّت المسلم أشدّ حرمة من حيّه و لازمه كون قطع عضو ميته أو شقّ جسده ميّتا أشد عقوبة و حرمة، بل إن صحيح جميل كالصريح في ذلك.

______________________________

(1) راجع رجال البرقي/ طبع مؤسسة النشر الاسلامي: ص 118، الرقم 53 و ص 126، الرقم 203.

(2) وسائل الشيعة: ج 19، ص 251، ب 25 من ديات الأعضاء، ح 4.

(3) وسائل الشيعة: ج 19، ص 248،

ب 24 من ديات الأعضاء، ح 4.

(4) المصدر: ص 249، ح 6.

(5) المصدر: ص 249، ب 25، ح 1.

(6) المصدر: ص 251، ب 25، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 174

و قد دلّت علي هذا المضمون نصوص كثيرة أخري مثل ما رواه في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام عن جدّه أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام عن جده رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: «إنّ اللّه حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء». «1»

و مرسل محمد بن سنان عمن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قلت له رجل قطع رأس ميّت. قال عليه السّلام: حرمة الميت كحرمة الحي». «2»

و خبر العلاء بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في بئر محرج وقع فيه رجل فمات فيه فلم يمكن إخراجه من البئر. أ يتوضأ في تلك البئر؟ قال عليه السّلام: لا يتوضأ فيه، يعطّل و يجعل قبرا، و إن أمكن إخراجه أخرج و غسّل و دفن، قال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله: حرمة المسلم ميتا كحرمته و هو حيّ سواء». «3»

و منها: ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«إنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول و أحلّ حلالا غير مدخول و فضّل حرمة المسلم علي الحرم كلها». «4»

و الحرم (بضم الحاء و الراء) جمع الحرمة، كما صرح به العلامة المجلسي في ذيل هذه الخطبة. «5» و المقصود أن حرمة المسلم من أعظم المحترمات في الشريعة.

و منها: خبر عبد اللّه بن محمد الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:

______________________________

(1) و المصدر: ص 250، ب 25 من ديات الاعضاء، ح 3،

و اصول الكافي: ج 1، ص 303، ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 19، ص 249، ب 25 من ديات الاعضاء، ح 2 و ص 249، ب 24، ح 5.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 875، ب 51 من الدفن، ح 1.

(4) نهج البلاغة/ للشيخ محمد عبده: ج 2، ص 79، الخطبة 167.

(5) بحار الأنوار: ج 65، ص 290.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 175

«حرمة الميت كحرمة الحي». «1»

إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة، و لا حاجة إلي ذكر جميعها.

و يستفاد من مجموع هذه النصوص مفاد هذه القاعدة و مجراها.

فالمتحصّل أنّ مقتضي هذه القاعدة حرمة قطع أي عضو من أعضاء الميت لأي غرض كان، أما بقصد الهتك و السرقة فواضح.

و أما بقصد رفع حاجة في المسلم الحيّ من زرع عضو الميت في بدنه أو تشريح أعضائه للتعليم و نحو ذلك من الأفعال التي تترتب عليها الفائدة العقلائية، فقد عرفت من إطلاق هذه النصوص حرمته. و إنّ التخصيص بمورد يحتاج إلي الدليل.

و أما القول بأنّ حرمة القطع إنما هي لأجل كونه هتكا و جسارة بالميت، و إلّا فلو كان لغرض عقلائي بحيث لا يعدّ هتكا عند العقلاء و المتشرعة فليس بحرام، فقد يشكل من حيث دلالة النصوص المزبورة علي أنّ قطع عضو الميّت المسلم بنفسه إسقاط لحرمته و أنّه لا فرق بينه و بين قطع عضو المسلم الحي في التحريم و غلظته، يكون قطع عضو الميت أغلظ تحريما.

و مقتضي التحقيق: أنّ المستفاد من سياق هذه النصوص كون تحريم شقّ جسد الميت و قطع عضوه لأجل أنّه موجب لهتك حرمته. فاذا اتفق في مورد عدم تحقق الهتك و الاهانة بذلك فلا وجه للالتزام بحرمته.

فالأقوي هو

الجواز حينئذ. لأنه الذي يساعده المتفاهم العرفي من هذه النصوص، بل هو المستفاد من سياقها.

______________________________

(1) الكافي: ج 7، ص 228، ب حدّ النبّاش، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 176

مجري القاعدة و تطبيقاتها

هذا كلّه في مفاد النصوص.

و أما فتاوي الفقهاء فقد أفتي الفقهاء بحرمة كلّ فعل بالميت يوجب هتك حرمته. و مواردها كثيرة جدّا.

و إليك نبذة من ذلك.

فمنها: فتواهم بحرمة إدخال القطن في مقعد الميت عند التكفين معلّلا بما ورد في النصوص من أن حرمة الميت كحرمة الحيّ، كما يوجد ذلك في كلمات أكثر الفقهاء و المتأخرين.

و منها: ما لو ماتت الامّ و مات الولد بعد خروج بعضه، و لم يمكن إخراج باقي الولد إلّا بشق بطن الام فقد حكموا بعدم إخراج باقي الولد و غسله مع أمّه كما كان و بحرمة الشق؛ معلّلا بأن الشق حينئذ هتك حرمة الميت من غير ضرورة، كما عن العلامة في المنتهي «1» و الجواهر «2» و غيرهما من الكتب الفقهية.

و منها: مسألة نبش القبر و سرقة ما للميت من الثياب و غيرها. فإنّهم حكموا بإجراء الحد عليه؛ تمسكا بهذه النصوص كما في الرياض «3» و الجواهر «4» و غيرهما.

و منها: حكمهم بحرمة قطع رأس الميت أو غيره من أعضائه معلّلا بهذه النصوص، بل جعل بعضهم دلالتها علي الحرمة التكليفية مسلّما

______________________________

(1) المنتهي: ج 1، ص 435.

(2) جواهر الكلام: ج 4، ص 298 و ص 378.

(3) رياض المسائل: ج 2، ص 490.

(4) جواهر الكلام: ج 41، ص 516.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 177

قطعيا، كما صرح به الشيخ. «1» و يظهر من صاحب الجواهر تأييده. «2»

و قد عنون الشيخ الحر بابا في الوسائل بعنوان تحريم

الجناية علي الميت المسلم بقطع رأسه أو غيره من الأعضاء.

و بعض هذه النصوص كالصريح في ذلك، مثل صحيح جميل عن غير واحد «قطع رأس الميت أشد من قطع رأس الحي». و قد رواه في الفقيه «3» باسناده عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السّلام من غير إرسال نقلا عن نوادر محمد بن أبي عمير. و قد سبق نقله آنفا عن الوسائل.

و علي أيّ حال فإنّ قطع عضو الميت أو شقّ جسده مما لا خلاف بين الفقهاء في حرمته التكليفية، بل جعلوا ذلك أمرا مسلّما، و إنما اختلفوا في مقدار ديته و مصرفها، نعم عند الضرورة تنتفي الحرمة، كما تنتفي عند الحرج و الضرر، كما ستعرف.

حالها مع معارضة ساير الأدلة

لا إشكال في تقدّم أدلة نفي الحرج و الضرر علي هذه القاعدة، كتقديمها علي أيّ حكم أوّلي. و عليه فلو وقع جسد الميت في مكان استلزم حفظ حرمته الحرج أو الضرر، كأن وقع في وسط مستنقع أو نار أو بحر أو بئر عميق مع فقد الآلة، يسقط وجوب حفظ حرمته.

و أما إذا دار الأمر بينه و بين ضرورة، فالظاهر تقديم الضرورة، كما لو

______________________________

(1) التهذيب: ج 10، ص 272.

(2) جواهر الكلام: ج 43، ص 386 و 387.

(3) الفقيه: ج 4، ص 157.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 178

توقف انقاذ نفس محترمة بشق بطنه أو قطع عضو من أعضائه، كما لو توقف إخراج الولد الحي من بطن أمّه الميت علي ذلك أو توقف علاج مريض مسلم و إنقاذه من الهلاك علي قطع عضو ميت مسلم و ترقيعه ببدنه و نحو ذلك.

و من هنا تري فقهاء الشيعة يجوّزون شقّ بطن الأم الميت لإخراج ولدها الحي من بطنها، خلافا للعامة،

كما استدل المحقق في المعتبر لجواز شقّ بطن المرأة الميت لإخراج الولد عن بطنها حيا بقوله: «إنّه توصل إلي بقاء الحي بجرح في ميت، فيكون أولي». «1»

و يفهم من كلام العلّامة جواز شقّ جسد الميت عند الضرورة و إن استلزم هتك حرمته؛ حيث قال: «و لو ماتت و مات الولد بعد خروج بعضه أخرج الباقي و غسل و كفّن و دفن. و إن لم يمكن إخراجه إلّا بالشق ترك علي تلك الحالة و غسل مع أمّه؛ لأنّ الشق هتك حرمة الميت من غير ضرورة». «2»

و يؤيده بعض النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام مثل مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«في المرأة تموت و يتحرك الولد في بطنها، أ يشق بطنها يخرج الولد؟ قال:

فقال عليه السّلام: نعم و يخاط بطنها». «3»

و خبر ابن يقطين قال: «سألت العبد الصالح عليه السّلام عن المرأة تموت ولدها في بطنها. قال عليه السّلام: يشق بطنها و يخرج ولدها». «4» إلي غير ذلك من النصوص.

______________________________

(1) المعتبر/ طبع مدرسة الامام أمير المؤمنين: ج 1، ص 316.

(2) المنتهي: ج 2، ص 435.

(3) وسائل الشيعة: ج 2، ص 673، ب 46 من أبواب الاحتضار، ح 1.

(4) المصدر: ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 179

قاعدة سوق المسلمين

اشارة

1- أهمية هذه القاعدة و عمومية نطاقها 2- تحرير مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- هل هي أمارة أو أصل؟

5- مجري القاعدة 6- حالها مع معارضة ساير الأمارات

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 181

أهمية هذه القاعدة و عمومية نطاقها

هذه القاعدة من القواعد المهمة التي تبتني عليها معاملات المسلمين و تعايشهم؛ حيث إنّه لو لا حجية هذه القاعدة لا يمكن شراء الذبائح و اللحوم من الأسواق و أكلها؛ لاحتمال عدم تذكيتها في غالب الموارد، و ما شكّ في تذكيته محكوم بالحرمة؛ لأصالة عدم تذكيته، و إنّما نتخلّص من أصالة عدم التذكية و من الحكم بحرمة ما احتمل عدم تذكيته بجريان هذه القاعدة.

و إنّما بحثنا عن هذه القاعدة في عداد القواعد العامة؛ نظرا إلي جريانها في الأحكام العبادية؛ كطهارة الجلود و جواز الصلاة فيها، و جواز تناول ما يجعل فيها من الماء و ساير المائعات. فلو لم يكن ما يشتري منها في سوق المسلمين طاهرا محكوما بالتذكية، لا يجوز الصلاة فيها، و لا تناول ما لاقاها من المائعات، و لا غير ذلك من وجوه التصرفات المتوقف جوازها علي طهارتها. و لأجل ذلك تعمّ مجاري هذه القاعدة العبادات أيضا، و تندرج في القواعد الفقهية العامّة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 182

تحرير مفاد القاعدة

مفاد هذه القاعدة أمارية سوق المسلمين علي التذكية.

بيان ذلك: أنّ الحيوان إذا شكّ في تذكيته، يحكم عليه بالحرمة و النجاسة؛ تمسكا باستصحاب عدم التذكية (المعبّر عنها بأصالة عدم التذكية)؛ نظرا إلي عدمها حال حياته فيستصحب من حال حياته إلي حال زهاق روحه.

هذا مقتضي القاعدة الأوّلية، و لكن بمقتضي هذه القاعدة يحكم عليه بالتذكية فيما إذا بيع الحيوان في سوق المسلمين، و إن لم يعلم إسلام البائع؛ نظرا إلي أمارية هذه القاعدة علي تذكية الحيوان. و لا يعتني بأصالة عدم التذكية، لعدم مجال لجريانها مع وجود الأمارة؛ حيث إنها تزيل الشك الذي هو موضوع الأصل. و بعد الحكم بتذكية الحيوان المبيع يحكم بطهارته

لا محالة؛ نظرا إلي كون الطهارة من الآثار المترتّبة علي التذكية، و من هنا لا تصل النوبة إلي جريان أصالة الطهارة، حتي يمنع جريانها بدعوي حكومة أصالة عدم التذكية علي أصالة الطهارة.

بل لو لا هذه القاعدة- أي سوق المسلمين- لا مجال لجريان أصالة الطهارة؛ نظرا إلي حكومة أصالة عدم التذكية عليها. و عليه فالحكم بطهارة ما بيع في سوق المسلمين و شكّ في طهارته، إنّما هو لأجل قاعدة سوق المسلمين، لا لأجل قاعدة الطهارة؛ لكي يشكل بحكومة أصالة عدم التذكية علي أصالة الطهارة.

ثم إنّه لا خصوصية للسوق بمعناه الخاص، كما يوهمه أخذه في عنوان القاعدة، بل المقصود أرض الإسلام، و هي مطلق الأمكنة التي تحت

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 183

سيطرة المسلمين، كما لا يعتبر فيها كون المسلمين جميع سكنتها، بل إنّما يعتبر كونهم أغلب سكّانها.

و يشهد لذلك قول صاحب الجواهر، حيث قال- بعد ردّ التفصيل فيما في يد المستحل بين الاخبار بالتذكية و عدمه-: «و من ذلك ظهر لك ضعف التفصيل المزبور، كاحتمال التفصيل بين السوق و غيره، بأنّه يكفي في الأوّل عدم العلم بكفر ذي اليد دون الثاني أو بما يقرب من ذلك؛ ضرورة اشتراك الجميع في الاعراض عن الأدلّة السابقة التي من المعلوم كون ذكر السوق في بعضها كناية عن بيع من لم يعلم حاله في بلاد الإسلام، الذي يكفي فيه غلبة المسلمين، كما دلّ عليه خبر إسحاق». «1»

هذا الخبر رواه الشيخ باسناده عن سعد بن عبد اللّه الأشعري عن أيوب بن نوح عن عبد اللّه بن المغيرة عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح عليه السّلام أنّه قال:

«لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض

الإسلام. قلت: فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه السّلام: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس». «2»

هذه الرواية موثقة لا إشكال في سندها، كما أنّ دلالتها علي المطلوب واضحة.

و حاصل الكلام: أنّ معني كون سوق المسلمين أمارة علي التذكية عدم لزوم الفحص عن حال البائعين فيه، و عدم وجوب السؤال عن أنهم مسلمون أو كفّار؛ إذ لو وجب ذلك للغي اعتبار عنوان السوق و لسقط عن كونه أمارة؛ حيث إنه ينكشف بالفحص كون البائع مسلما أو غير مسلم و يد الأوّل أمارة

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 8، ص 61.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1072، ب 50 من النجاسات، ح 5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 184

علي التذكية بلا خلاف، دون يد الثاني، فلا معني لأمارية السوق حينئذ.

ثم إنّ مقتضي التحقيق اختصاص أمارية سوق المسلمين بالتذكية و عدم كونها أمارة علي ملكية ما يبيعونه في أسواقهم؛ نظرا إلي ورود روايات هذه القاعدة في التذكية و عدم تعرّض شي ء منها إلي غير التذكية.

و لأنّ الملكية إنّما تثبت بقاعدة اليد.

و قد يشكل علي ذلك مستدلا بعدم انحصار دليل هذه القاعدة فيما تعرّض لها من النصوص، بل يمكن الاستدلال عليها أيضا بقاعدة اختلال النظام و سيرة المتشرعة، و عليهما تبتني هذه القاعدة بنطاقها الواسع.

و عليه فهذه القاعدة أمارة علي حجية يد المسلم و أماريتها و علي ملكية ما يباع في أسواق المسلمين للبائعين، و يترتب عليها جواز البيع و الشراء و الشهادة علي الملكية، كما دلّت علي ذلك معتبرة حفص بن غياث. و سيأتي ذكرها و زيادة توضيح لذلك في بيان مدرك القاعدة.

و الجواب: أنّ الامارة علي الملكية إنّما هي قاعدة اليد، و هي

تبتني علي بناء العقلاء؛ حيث استقرّ بناؤهم علي اعتبارها و أماريتها علي الملكية في معاملاتهم و مبادلاتهم، بلا اختصاص لذلك بالمسلمين. و لم يردع عنه الشارع، بل أمضاه بدلالة ما ورد من النصوص الدالة علي اعتبار اليد و حجيتها و أماريتها علي الملكية و جواز الشهادة عليها.

و أما قوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» في ذيل معتبرة حفص، فليس المقصود بيان أمارية سوق المسلمين علي الملكية، بل الظاهر بيان حكمة أمارية اليد بأنه لو لا حجية اليد و اعتبارها لاختلّ قوام سوق المسلمين و نظام اقتصادهم و معاملاتهم.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 185

مدرك القاعدة

اشارة

قد استدلّ علي هذه القاعدة بوجوه.

الأوّل: الإجماع

حيث إنّ الفقهاء من سالف الزمان علي حجية سوق المسلمين و كونه أمارة علي التذكية. و لم يشكّك أحد منهم في ذلك، لا من القدماء و لا من المتأخّرين.

و لكن لا ينبغي عدّ مثل هذا الاجماع دليلا مستقلا في المقام؛ نظرا إلي ما تمسّك به المجمعون، من السيرة و النصوص الدالة علي حجيتها بالخصوص. فليس الاجماع المدّعي في المقام إجماعا تعبّديا كاشفا عن رأي المعصوم، بل هو إجماع مدركي يحتمل قويّا كونه ناشئا من ساير أدلّة هذه القاعدة. نعم يثبت بذلك أنّ العمل بهذه القاعدة و الافتاء بها مورد تسالم الأصحاب و الفقهاء.

الثاني: قاعدة اختلال النظام

بتقريب أنّه يلزم من عدم حجية هذه القاعدة الاختلال في نظام معاش المسلمين. و الوجه في ذلك أنّهم لو لم يعتمدوا علي أسواقهم؛ اعتقادا بعدم جواز شراء ما يباع فيها من الذبائح و اللحوم ما لم يعلموا تذكيتها بمقتضي اصالة عدم التذكية و استصحاب عدمها، للزم من ذلك أن يقدم آحادهم علي ذبح الحيوان بالمباشرة، و هو غير مقدور لهم، و لازمه تعطيل البيع و شراء اللحوم و الحيوان، و ذلك يوجب اختلال نظام معاشهم، و لا سيما بلحاظ

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 186

ازدحام نفوس المسلمين و ازديادهم في هذا العصر.

بل قد يقال: إنّ هذه القاعدة بنطاقها الواسع أوضح ابتناء علي قاعدة اختلال النظام؛ إذ لا ينحصر نطاقها في أماريتها علي التذكية بل هي أمارة علي الملكية و حجية اليد أيضا، و إلّا فلو لا أمارية سوق المسلمين علي ذلك لاختلّ نظام معاملاتهم و مبادلاتهم، فيتوقف حفظ نظام اقتصادهم و قوام معاشهم علي أماريته كما أنّه استقرّ علي ذلك بناء العقلاء في معاملاتهم و مبادلاتهم، و إلّا فلو

لا اعتمادهم علي أسواقهم لاختلّ نظام معاملاتهم و معاشهم، و ينجرّ ذلك لا محالة إلي الاختلال في نظام حياة نوع الناس، و لم يرد من الشارع ردع عن هذا البناء العقلائي، بل ورد منه ما يدلّ علي إمضائه، كما في معتبرة حفص بن غياث.

و قد رواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه و علي بن محمد القاساني جميعا عن القاسم بن يحيي عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال عليه السّلام: نعم.

قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك: هو لي، و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلي من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

وجه دلالة هذه المعتبرة علي ذلك، أنّ الامام عليه السّلام أخذ لزوم قيام سوق

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ب 25، من أبواب كيفية الحكم، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 187

المسلمين و وجوب حفظ نظامه و عدم جواز الاختلال فيه أمرا مسلّما مفروغا عنه، و فرّع علي ذلك أمارية اليد علي الملكية و جواز الشهادة عليها.

و معني ذلك حجية سوق المسلمين و أماريته علي ملكية ما في أيدي البائعين من أهل الفسوق و جواز شراء ما يباع فيه. و

إن شئت، فقل يفهم منها أمارية سوق المسلمين علي أمارية اليد.

و فيه: أن أماريّة اليد لا تختصّ بيد المسلم، بل اليد أمارة علي الملكية مطلقا، حتي يد الكافر.

و ذلك لأنّ عمدة الدليل علي أماريتها بناء العقلاء؛ حيث استقر بناؤهم علي اعتبار اليد و حجيتها علي ملكية ما في أيديهم. و علي ذلك جرت سيرتهم في معاملاتهم و مبادلاتهم، بل عليه يبتني نظام اقتصادهم و أساس معاملاتهم، كما أشير إلي ذلك في ذيل معتبرة حفص، و إن كان في خصوص سوق المسلمين، إلّا أنّه له من هذه الجهة؛ لوضوح توقف نظام اقتصاد جميع الملل و القبائل علي أمارية اليد.

و عليه فاذا كانت اليد أمارة علي الملكية في جميع الشعوب و القبائل و الملل بلا اختصاص بالمسلمين، فلا دخل لسوق المسلمين بما أنّه سوقهم في الأمارية علي الملكية كما هو واضح. فقوله عليه السّلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» بيان لحكمة أمارية اليد علي الملكية.

و هذا بخلاف أماريته علي التذكية الشرعية؛ إذ لا اعتقاد لغير المسلمين و لا تعهد لهم بالتذكية الشرعية حتي تكون أيديهم أو سوقهم أمارة عليها.

و أما سندا فالأقوي اعتبار طريق الكليني المزبور، و أما تضعيفه بوقوع القاسم محمد بن يحيي في طريقه، فغير وجيه؛ إذا لا يعبأ بتضعيف

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 188

ابن الغضائري إيّاه بعد نقل الأجلّاء عنه مثل إبراهيم بن هاشم و أحمد بن محمد بن عيسي و محمد بن عيسي و البرقي، و وقوعه في أسناد كامل الزيارات، و بعد حكم الصدوق بأنّ ما رواه في زيارة الحسين عليه السّلام من أصح الزيارات. مع عدم ثبوت نسبة الكتاب إلي ابن الغضائري.

و أما حفص

بن غياث فهو و إن كان عامّي المذهب و لم يصرّح أحد بتوثيقه خصوصا، إلّا أنه يكفي في إثبات وثاقته و اعتبار رواياته شهادة الشيخ في العدّة بأنّ الطائفة عملت برواياته و أنّ الوثاقة المعتبرة في نقل الرواية حاصلة فيه، مع ما قال في الفهرست بأنّ له كتابا معتمدا و كذا قال العلامة.

هذا، مضافا إلي أنّ الصدوق أيضا رواها باسناده عن سليمان بن داود، و إن وقع في طريقه القاسم بن محمد الاصفهاني و اختلف في وثاقته. و علي أيّ حال فهذه الرواية معتبرة بطريق الكليني، مع اعتضادها بطريق الصدوق.

الثالث: سيرة المتشرعة.

فانّ سيرة المسلمين و المؤمنين قد استقرّت منذ عهد الأئمة عليهم السّلام إلي زماننا هذا علي شراء الذبائح و اللحوم من أهل بلادهم و أسواقهم من دون فحص و تجسّس عن كيفية تذكيتها. و أنها هل ذبحت علي الوجه الشرعي الصحيح أم لا؟.

و لا تختص هذه السيرة بزماننا هذا، بل كانت جارية مستقرّة بين المتشرعة و المتدينين منذ زمن أهل البيت عليهم السّلام إلي زماننا هذا. و لو لم تكن مستقرّة في زمنهم لنقل خلاف ذلك و لم يسمع خلافه من أحد. فيكشف من ذلك كونها مستمرّة من تلك الأزمنة إلي الآن. بل وردت في المقام نصوص

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 189

تؤكد هذه السيرة.

و لا يخفي أنّ هذه السيرة الجارية بين المتشرعة كاشفة عن أمارية سوق المسلمين علي التذكية لا علي الملكية؛ نظرا إلي كون اليد أمارة عقلائية علي الملكية بين العقلاء قبل الإسلام بلا اختصاص بالمسلمين.

و هذا بخلاف التذكية التي هي من أحكام الإسلام و لا يراعيها إلّا المسلمون.

الرابع: ما ورد من النصوص

الآمرة بترتيب آثار التذكية علي ما يباع من اللحوم و الذبائح في أسواق المسلمين و جواز شرائه، بل نهي فيها عن الفحص و السؤال.

فمن هذه النصوص موثّقة إسحاق بن عمار. و قد سبق ذكرها آنفا، بعد نقل كلام صاحب الجواهر في تحرير مفاد القاعدة.

و منها: صحيحة فضيل و زرارة و محمد بن مسلم:

«أنّهم سألوا أبا جعفر عليه السّلام عن شراء اللحوم من الأسواق و لا يدري ما صنع القصّابون؟ فقال عليه السّلام: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين و لا تسأل عنه». «1»

و منها: صحيحة الحلبي قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الخفاف التي تباع في السوق. فقال عليه

السّلام: اشتر و صلّ فيها حتي تعلم أنها ميتة بعينها». «2»

و منها: صحيحة البزنطي قال:

«سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أ ذكيّة هي أم غير ذكيّة، أ يصلّي فيها؟ فقال: نعم. ليس عليكم المسألة. إنّ أبا جعفر عليه السّلام كان يقول: إنّ الخوارج

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16، ص 294، ب 29 من الصيد و الذبائح، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1071، ب 50 من النجاسات، ح 2.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 190

ضيّقوا علي أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك». «1»

و في صحيحته الأخري عن الرضا عليه السّلام قال:

«سألته عن الخفّاف يأتي السوق فيشتري الخفّ. لا يدري أ ذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه، و هو لا يدري؟، أ يصلّي فيه؟ قال عليه السّلام: نعم أنا أشتري الخفّ من السوق و يصنع لي و أصلّي فيه و ليس عليكم المسألة». «2»

إلي غير ذلك من النصوص الواردة في المقام لا حاجة إلي ذكرها. «3»

هل هي أمارة أو أصل؟

الظاهر من أدلة هذه القاعدة أنّ سوق المسلمين أمارة لا أصل. فلنا دعويان:

إحداهما: عدم كون هذه القاعدة من الاصول، ثانيتهما: كونها أمارة. ثم يقع الكلام في أنها علي فرض كونها أمارة فهل هي أمارة في عرض يد المسلم أو هي أمارة علي الامارة الاصلية، و هي يد المسلم.

أما الدعوي الاولي: فالدليل عليها واضح، و ذلك لأنّ الأصل إما تعبدي غير تنزيلي أو تنزيلي. و الأصل التنزيلي علي قسمين.

أحدهما: ما كان مفاده تنزيل المشكوك منزلة الواقع، كأصالة الطهارة و الحلية. فمن قال بأنهما من الاصول التنزيلية، التزم بأنّ مفادهما تنزيل مشكوك الطهارة و الحلية منزلة الطاهر و الحلال الواقعين. و

يترتب علي ذلك آثارهما، كطهارة مدفوع الحيوان المحكوم بالحلية. و أمّا إذا لم نقل بذلك لا

______________________________

(1) المصدر: ح 3.

(2) وسائل الشيعة: ج 2، ص 1072، ب 50 من النجاسات، ح 6.

(3) راجع الوسائل: ب 50 من النجاسات و ج 16، 294، ب 29 من الصيد و الذبائح.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 191

نستطيع الحكم بطهارة مدفوع الحيوان المشكوك طهارته و حليته.

ثانيهما: ما كان مفاده تنزيل المشكوك منزلة اليقين و العلم بالواقع.

و ذلك إما من جهة الجري العملي، كما يقول به المحقق النائيني، أو في الكاشفية عن الواقع، كما يقول به السيد الخوئي. «1»

أما كون هذه القاعدة أصلا غير تنزيلي فواضح البطلان؛ لوضوح عدم كون اعتبار السوق تعبّدا شرعيا محضا في خصوص ظرف الشك في التذكية، من دون ابتناء علي أية نكتة عرفية، فان ذلك خلاف ظاهر أدلة اعتباره، كما ستعرف بيانه.

و أمّا عدم كونها أصلا تنزيليا، فالوجه فيه أنّ في موضوع الأصل- و لو كان تنزيليا- أخذ الشك، و لا يستفاد من نصوص المقام أخذ الشك في موضوع قاعدة السوق، بل المستفاد منها حجية هذه القاعدة عند مطلق الجهل بالواقع، كما صرّح السائل في بعض النصوص بأنّه لا يدري أنّ ما يباع في سوق المسلمين أ ذكيّ أم لا؟

و ثانيا: شهادة الوجدان علي أنّ المتدينين في سيرتهم عند شراء اللحوم و الحيوانات لا التفات لهم إلي الشك في التذكية، بل يقدمون علي شراء كلّ حيوان يباع في أسواقهم و لو لم يعلموا تذكيته. فالمأخوذ في مصبّ هذه القاعدة هو الجهل بالواقع لا الشك فيه. كما هو كذلك في قاعدة اليد أيضا.

و أما الدعوي الثانية: - و هي كون هذه القاعدة أمارة- فالوجه

فيه:

أولا: أنّ سيرة المتشرّعة و المتدينين قد استقرت علي شراء مجهول

______________________________

(1) راجع دروس الشهيد الصدر، الحلقة الثالثة، القسم الثاني: ص 16- 17.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 192

التذكية من اللحوم و الحيوانات و معاملة المذكّي معه، مع اعتقادهم بحرمة تناول غير المذكّي. و إنّ قيام سيرتهم علي ذلك مع اجتنابهم عن ملك الغير و غير المذكّي دليل علي أنهم يرون أسواقهم و أيديهم كاشفة عن تذكية ما يباع فيها و حلّيته، كما هو شأن الأمارات. و إنّ سيرة المتشرعة حجة في نظر الشارع بلا حاجة إلي الامضاء.

بل يمكن أن يقال: إنّه كما استقرّ بناء العقلاء في معاملاتهم و مبادلاتهم علي العمل بقاعدة اليد بتنزيل مجهول الملكية منزلة الملك الواقعي أو منزلة العلم به، و كذا في ساير الأمارات العقلائية كخبر الثقة، كذلك سيرة المسلمين استقرّت علي معاملة المذكي الواقعي أو العلم به مع مجهول التذكية إذا بيع في أسواقهم؛ نظرا إلي عدم اختصاص بنائهم بصورة الشك، كما أن القول بأمارية اصالة الصحة تبتني علي ذلك.

فكيف أنّهم ينزّلون المجهول منزلة الواقع أو منزلة العلم به باخبار الثقة؟

فكذلك المسلمون ينزّلون مجهول التذكية إذا بيع في أسواقهم منزلة المذكّي الواقعي. فكما أمضي الشارع هناك بالنهي عن تبيّن خبر العادل، فكذلك نهي في المقام عن السؤال و الفحص.

و ثانيا: ما يظهر من بعض نصوص المقام بالخصوص، كموثقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السّلام أنّه:

«قال عليه السّلام: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام. قلت:

فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال عليه السّلام: إذا كان الغالب عليه المسلمين فلا بأس». «1»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 2، ب 50 من النجاسات، ح

5.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 193

فان إناطة جواز الشراء بكونه في أرض الإسلام و غلبة المسلمين ظاهر في كون الملاك جهة كشف ذلك عن التذكية واقعا.

و الحاصل أنّ أمارية سوق المسلمين لا إشكال فيها في الجملة. و إنّما الكلام في أنّه هل يكون أمارة بنفسه، أو أنّه أمارة علي أمارة أخري و هي يد المسلم؟.

فقد يقال: إنّ المستفاد من الأدلة عدم كون السوق بنفسه أمارة علي التذكية، بل إنه أمارة علي الأمارة الأصلية، و هي يد المسلم؛ نظرا إلي أنّ غلبة المسلمين في بلاد الإسلام كاشفة عن كون البائع مسلما و إنّ هذا الكشف و إن لا يكون تامّا وجدانا، إلّا أن الشارع قد تمّم كاشفيته بدلالة ما ورد من النصوص فجعله كاشفا تاما تعبدا. و لذا لا يكون السوق أمارة فيما إذا علم كون البائع كافرا؛ لعدم كونه كاشفا عن التذكية حينئذ بأيّ وجه، بل إنما يكشف عن ذلك إذا لم يعلم حال البائع.

و عليه فيرجع اعتبار السوق في الحقيقة إلي اعتبار يد المسلم، كما لا أمارية له فيما إذا أحرز اسلام البائع، فلا يصح ما قيل: إنّ هناك حينئذ أمارتين، و هما السوق و يد المسلم.

و أما قيام سيرة المتدينين علي معاملة المذكّي و المملوك مع ما يباع في سوق المسلمين إذا لم يعلم تذكيته فانّما هو لأجل كاشفيته عن اسلام ذي اليد.

و أما النصوص فيمكن توجيهها بذلك، فان غلبة المسلمين في أرض الإسلام كاشفة عن اسلام البائع و إحراز يد المسلم بذلك، و هي الأمارة الأصلية.

و لكن التحقيق أنّ السوق أمارة مستقلّة.

و ذلك أولا: لأن أمارية يد المسلم تختصّ بيد من علم كونه مسلما

مباني الفقه الفعال في القواعد

الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 194

وجدانا. و أما اليد المحكومة بكونها للمسلم ظاهرا فكونها أمارة علي التذكية غير معلوم، بل هو أوّل الكلام. فالحكم بالتذكية حينئذ إنما هو لأجل أمارية سوق المسلمين علي ذلك.

بل يمكن أن يقال: إن حكم الشارع بتذكية ما يباع في سوق المسلمين و كذا استقرار سيرة المتشرعة علي معاملة المذكّي و الطاهر معه، كما يمكن أن يكون لأجل كاشفية سوق المسلمين عن إسلام ذي اليد و إحراز يد المسلم بذلك لأجل غلبة المسلمين، فكذلك يمكن أن يكون لأجل كشفه عن وقوع التذكية الشرعية، لا لأجل كشفه عن اسلام ذي اليد الفعلي. و لذا قد يقال بجريان هذه القاعدة حتي فيما لو علم بكفر البائع؛ لأن سوق المسلمين يكف في الجملة عن انتقال المبيع من المسلم إلي الكافر البائع. فيكشف بذلك عن وقوع التذكية. و لذا تري بعض الفقهاء حكم بجريان قاعدة السوق في عرض يد المسلم، بل التزم بعضهم بجريانها حتي فيما إذا كان البائع كافرا». «1»

و ثانيا: لأنه كما أنّ ملاك أمارية يد المسلم ليس إلّا كشفها عن واقع التذكية و الطهارة، فكذلك السوق، إلّا أنّ اليد في خصوص من علم كونه مسلما أمارة علي التذكية، بخلاف السوق فانه أمارة في كل ما لم يعلم تذكيته. و أما ما دل عليه نصوص المقام من إناطة جواز شراء ما يباع و حلية التصرف فيه بكون بيعه في أرض الإسلام مع غلبة المسلمين، فانّما هو بيان

______________________________

(1) و هو السيد الگلپايگاني حيث قال: «الظاهر من الأخبار أنّ المأخوذ من سوق الإسلام- و لو من يد الكافر إن لم يعلم سبقه بسوق الكفر- محكوم بالطهارة» راجع كتاب العروة المحشي: المسألة 5، الرقم 2.

مباني الفقه الفعال

في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 195

لوجه كاشفيته و أماريته؛ لأنه لو لم يكن له كاشفية و طريقية إلي واقع التذكية و الطهارة لم يمكن جعله أمارة، حتي من قبل الشارع، كما أنّ الأمر كذلك في ساير الأمارات، و إنما تثبت للسوق هذه الكاشفية إذا كان في أرض الإسلام و كان أغلب سكّانها المسلمين.

و ثالثا: ان قول السائل: «و لا يدري ما صنع القصابون؟» ظاهر في كون اسلام ذي اليد القصاب محرزا، و لكنّه لا يدري ما صنعه لاحتمال عدم رعايته لأنه ممّن لا يبالي. و هذا دليل قاطع علي أنّ قاعدة سوق المسلمين دليل و أمارة مستقلة علي التذكية لا لأجل أمارية يد المسلم؛ حيث انه عليه السّلام لم يشر إلي حجية اليد مع فرض الإسلام ذي اليد. و من ذلك يظهر ضعف ما قد يقال، من وجود أمارتين في هذا الفرض إحداهما: السوق و الاخري يد المسلم. و ذلك لأنّ يد المسلم لا أمارية له علي التذكية فيما إذا كان ذو اليد ممن لا يبالي، كما اتضح بذلك عدم صحة ما قد يقال من أنّه إذا أحرز كون ذي اليد مسلما لا موضوع لقاعدة السوق.

فتحصّل أنّ سوق المسلمين أمارة علي التذكية و الطهارة في عرض يد المسلم. و عليه فما يشتري من الكافر في سوق المسلمين يدخل في مفاد هذه القاعدة، لو لم نعلم بكونها مسبوقة بسوق الكفّار أو بأيديهم فيحكم بتذكيته و طهارته. نعم إذا كان مسبوقا بسوق الكفّار أو كان في أيديهم لا يجري هذه القاعدة لعدم احتمال التذكية أو لأنّ سوقهم أو أيديهم أمارة علي عدم التذكية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 196

مجري القاعدة

قد تبيّن مما بينّاه

آنفا أنّ مجري هذه القاعدة و مصبّها هو ما يباع في بلاد المسلمين من الحيوانات المذبوحة و اللحوم و لم يعلم تذكيتها علي الوجه الشرعي، بأن احتمل عدم التذكية احتمالا معتني به.

و عليه فيعتبر في جريان هذه القاعدة عدم العلم بالتذكية و لا العلم بعدمها، و إلّا فمن الواضح أنّه علي الأول لا حاجة إلي هذه القاعدة، بعد العلم بالتذكية أو قيام الحجة المعتبرة علي تحقّقها، من خبر عدل أو بيّنة و نحوهما. و علي الثاني لا ينفع جريان هذه القاعدة، بل لا تجري، بعد العلم بعدم وقوع التذكية أو قيام الحجة المعتبرة علي زهق الروح من الحيوان بغير التذكية. و كذا لا تجري فيما في يد الكافر و لو في سوق المسلمين؛ لعدم احتمال التذكية، إلّا إذا علم بكون يده مسبوقا بيد مسلم.

ثم إنّه لا يخفي أنّ هذه القاعدة لا تجري لا ثبات الملكية مطلقا سواء كان ذو اليد مسلما أو مجهول الحال، بل و إن كان كافرا. و ذلك لما سيأتي من كون اليد أمارة علي الملكية في بناء العقلاء بلا اختصاص بيد المسلم. و هذا البناء لم يردع عنه الشارع، بل أمضاه بدلالة النصوص.

و أنت تعرف أنّه مع كون اليد أمارة علي الملكية، حتي يد من علم كفره، لا يبقي مجال لجريان قاعدة سوق المسلمين؛ نظرا إلي ارتفاع موضوعه بعد قيام الامارة علي الملكية، فلا حاجة إليها، مع أنّ نطاقها أضيق من نطاق أمارية اليد، كما عرفت.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 197

حالها مع معارضة ساير الأمارات

إذا تعارضت قاعدة سوق المسلمين مع أصل تنزيلي أو غير تنزيلي لا ريب في تقدّمها عليه؛ لأنها أمارة و إنّ الأمارة واردة علي الاصول؛ نظرا إلي

أنّ بقيامها يرتفع الشك، فلا موضوع للأصل حينئذ. و أما إذا تعارضت مع ساير الأمارات كالبيّنة و خبر العدل- بناء علي حجيته في الموضوعات- فلا إشكال في تقدّمها علي قاعدة السوق.

و الوجه في ذلك: أنّه أخذ في موضوع هذه القاعدة عدم العلم بالتذكية مطلقا، لا بالعلم الوجداني و لا بالعلم التعبدي، كما جاء ذلك في نصوص المقام في فرض السائل، و أيضا هو موضوع كلام الامام عليه السّلام. و أما نهيه عليه السّلام عن السؤال و الفحص فلا ينافي ذلك؛ نظرا إلي كونه في فرض عدم علم المشتري بالتذكية وجدانا و لا بالحجة الشرعية المعتبرة.

ان قلت: انّ في موضوع حجية الأمارات أخذ الجهل بالواقع أيضا.

قلت: نعم، و لكن مفاد نصوص المقام كون سوق المسلمين أمارة علي التذكية في صورة عدم العلم بها وجدانا أو بالحجة المعتبرة. و عليه فبعد قيام البيّنة أو خبر الثقة علي التذكية لا موضوع لهذه القاعدة.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 199

قاعدة العدل و الانصاف

اشارة

1- أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء 2- مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- هل هي أمارة أو حكم أو أصل؟

5- حالها مع معارضة ساير الأدلة 6- التطبيقات الفقهية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 201

أهمية هذه القاعدة و منصّتها في كلمات الفقهاء

هذه القاعدة قد استدل بها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه، عباداتها و معاملاتها و جزائياتها. فهي لا تختص بباب خاص، بل تعمّ جميع أبواب الفقه. و لا يخفي علي الفقيه البصير دورها الكبير و أهميتها الخطيرة في استنباط الأحكام و الاجتهاد الفعّال الملائم للعقل و السيرة العقلائية؛ لما لها من الجذر في حكم العقل و السيرة العقلائية.

و لا يخفي أنّ قدماء الأصحاب و أكثر متأخّريهم، و إن لم يتمسّكوا بنصّ هذه القاعدة لفتاواهم في مواردها و مظانّها، إلّا أنّهم في كثير من موارد تردّد الحقوق و الأموال بين شخصين أو أشخاص فيما إذا لم يرد نصّ خاص في كيفية تقسيمها حكموا بتقسيمها بينهم بالسوية، فيما إذا لم تكن لأحد المدّعين بيّنة و لا دليل علي اختصاص ذلك المال أو الحق المتردد أو المشترك بنفسه أو علي زيادة سهمه عن الآخرين.

و قد علّلوا ذلك بعدم جواز الترجيح بلا مرجّح و عبّر بعضهم عن دليل ذلك بأصالة التسوية. و إن يمكن إرجاع الدليل الثاني إلي الأوّل؛ حيث لا أساس للتسوية في مفروض الكلام مع عدم ورود نص شرعي بالخصوص،

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 202

إلّا حكم العقل بعدم جواز الترجيح بلا مرجح، كما صرّح بذلك في كلمات جماعة من الفقهاء. و علي أيّ حال مرجع استدلالهم بعدم جواز الترجيح بلا مرجح و بأصالة التسوية في مثل هذه الموارد إلي مفاد هذه القاعدة مع الاشارة

إلي دليلها.

و سيأتي في التطبيقات الفقهية ذكر نماذج من كلمات الفقهاء من القدماء و المتأخرين، الذين حكموا بالتقسيم بالسوية في مثل هذه الموارد و علّلوا ذلك بهذين الدليلين.

و لكن مع ذلك فقد تمسك جماعة من الفقهاء المتأخرين و المعاصرين بنصّ هذه القاعدة. و إنّهم من بين قائل بحجية هذه القاعدة مطلقا، و من قائل بعدم حجيتها مطلقا، و من مفصّل باختصاص حجيتها بموارد خاصة وردت فيها النصوص، لا مطلقا.

و سيأتي تفصيل ذلك في التطبيقات الفقهية.

و أوّل من تمسّك بنص هذه القاعدة- فيما وصلت إليه- هو السيد محمد العاملي في نهاية المرام، إلّا أنّ الموجود في كلامه مقتضي العدل و الانصاف، و لم يعبّر عنه بالقاعدة. فانه بعد ما استظهر من كلام الشيخ و العلامة وجوب ضمّ النهار إلي الليلة في ثبوت حق القسم لكلّ مرأة من الزوجات الأربعة، قال: «و دليله غير واضح علي الخصوص، و إن كان المصير إلي ما ذكره مقتضي العدل و الانصاف». «1»

و ممن استدل بها صاحب الحدائق «2»؛ حيث علّل التسوية بين الزوجات

______________________________

(1) نهاية المرام/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 430.

(2) الحدائق الناضرة: ج 24، ص 609.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 203

في الانفاق و حسن المعاشرة و الجمع و طلاقه الوجه؛ بأنّ في ذلك رعاية العدل و الانصاف. و سيأتي نقل كلامه في التطبيقات.

و منهم: صاحب الجواهر «1» فانه علّل بهذه القاعدة للحكم بالنصف فيما إذا تداعي شخصان في درهم واحد، فادّعي كلّ واحد منهما ملكية الدرهم لنفسه و لا بيّنة لأحدهما، و كان تحت يدهما معا، أو لا يد لواحد منهما عليه.

فحينئذ حكم بقطع الخصومة بينهما بالعدل و الانصاف.

و لكنهم لم يعبّروا عنها بالقاعدة.

و إنّما عنونها بقاعدة العدل و الانصاف من جاء بعدهم من الفقهاء المعاصرين، و إن يفهم من بعض كلمات صاحب الجواهر أنّه أطلق عليها عنوان القاعدة، كما سيأتي نصّ كلامه في التطبيقات الفقهية.

و ممن عبّر عنها بالقاعدة هو الفقيه المحقق السيد الحكيم، «2» و الفقيه النحرير السيد الامام الراحل «3» و الفقيه الأصولي السيد الخوئي. «4» إلي غير ذلك من الفقهاء و المعاصرين. و سيأتي نقل كلمات بعضهم في التطبيقات الفقهية.

ثم إنّ ابتناء حجية هذه القاعدة علي حكم العقل المستقل لا ينافي كونها من القواعد الفقهية، كما أشرنا إلي ذلك في طليعة البحث عن قاعدة اختلال النظام. و ذلك لكون حكم العقل دليل هذه القاعدة، من دون أن يكون نتيجتها بنفسه.

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 224.

(2) راجع المستمسك: ج 9، ص 497 و 501 و ج 14، ص 249.

(3) راجع كتاب البيع: ج 5، ص 139 و 141.

(4) مستند العروة كتاب الخمس: ص 146 و 148 و 151 و 254/ مصباح الفقاهة: ج 5، ص 253 و ج 7، ص 291/ مباني تكملة المنهاج: ج 2، ص 418.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 204

مفاد القاعدة

عنوان هذه القاعدة يتشكّل من لفظي العدل و الانصاف. فينبغي أولا:

التحقيق في معناهما اللغوي و العرفي و ثانيا في بيان المقصود من هذه القاعدة اصطلاحا.

و أما في اللغة: فلفظ العدل فسّره في المفردات بالتقسيط علي سواء، و بالمساواة في المكافأة، إن خيرا فخير و إن شرا فشر. بخلاف الاحسان الذي هو مقابلة الخير بأكثر منه و الشر بأقلّ منه. و في أساس البلاغة بالوسط و الاقتصاد، و في النهاية بضدّ الجور. و فسّره في المصباح بهما بقوله:

«العدل القصد في الأمور و هو خلاف الجور». ثم قال: «و التعادل بالتساوي، و عدّلته تعديلا فاعتدل سوّيته فاستوي، و منه قسمة التعديل».

و في مجمع البحرين قال: «العدل لغة هو التسوية بين الشيئين و عند المتكلمين هو العلوم المتعلّقة بتنزيه البارئ عن فعل القبيح و الاخلال بالواجب» و أيضا فسّره بالقصد في الأمور و بخلاف الجور و بالفداء.

و المتحصّل من مجموع كلماتهم أنّ لفظ العدل في أصل اللغة هو التسوية في القسمة و المكافأة و ساير الأمور. و القصد في الأمور الذي هو خلاف الجور يكون في الحقيقة التسوية في الأمور، كما أنّ الفدية بلحاظ ما يعتبر فيها من مساواتها و تعادلها مع ما تفدي عنه، تكون من مصاديق العدل.

و أما لفظ الانصاف: فقد فسّره أهل اللغة باعطاء النصف، كما صرّح به أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية و الزمخشري في أساس البلاغة.

و في المصباح: «أنصفت الرجل إنصافا عاملته بالعدل و القسط و الاسم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 205

النصفة بفتحين؛ لأنّك أعطيته من الحق ما تستحقه لنفسك».

و الظاهر أنّ هذا التفسير مناسب لما هو المرتكز في أذهان أهل العرف من لفظ الانصاف و هو أعم من معناه بحسب أصل اللغة؛ حيث إنّ إعطاء النصف من مصاديق العدل و القسط بلحاظ استواء النصفين و تعادلهما.

و بذلك يظهر الفرق بين العدل و الانصاف في اللغة. فالعدل في أصل اللغة هو مطلق التسوية، و لكن الانصاف هو خصوص التسوية بالتنصيف و إعطاء النصف.

و لقد أجاد أبو هلال في الفرق بينهما؛ حيث قال: «إنّ الانصاف إعطاء النصف. و العدل يكون في ذلك و في غيره ألا تري أنّ السارق إذا قطع، قيل:

إنّه عدل عليه، و

لا يقال: إنّه أنصف؟. و أصل الانصاف أن تعطيه نصف الشي ء و تأخذ نصفه من غير زيادة و نقصان». «1» و أظنّ أنّ أحسن ما جاء في تفسير العدل كلام علي عليه السّلام: «العدل يضع الأمور مواضعها». «2» يلائم هذا المعني ما سيأتي في بيان المعني المقصود من الانصاف.

و أما في الاصطلاح فقد يقال في بيان مفاد هذه القاعدة: إنّ المقصود منها توزيع المال المشتبه مناصفة، بأن اشتبه مال بين شخصين و لم يعلم أنّه لزيد أو عمرو مع العلم الإجمالي بأنه لأحدهما قطعا و لم يكن أيّ دليل و لا أيّة أمارة علي التعيين. فيرجع حينئذ إلي هذه القاعدة، و هي تفيد تقسيم المال بينهما نصفين.

و هذا البيان مناسب لمعني لفظ الانصاف في أصل اللغة؛ حيث اخذ من

______________________________

(1) الفروق اللغوية: ص 80، ش 317.

(2) نهج البلاغة: ح 437.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 206

النصف، كما فرّق بذلك أبو هلال العسكري بين العدل و الانصاف.

و لكن هذا المعني لا ينبغي أن يكون مقصودا من هذه القاعدة قطعا.

و ذلك لأنّ لفظ الانصاف في نص القاعدة بمعني ما يرادف العدل، دون ما يغايره كما جاء في كلام أبي هلال.

و ذلك أولا: بقرينة إرداف الانصاف للعدل في متن القاعدة. فانّ ظاهر ذلك إفادة اللفظين معني واحدا هو مفاد هذه القاعدة.

و ثانيا: لأنّ عمدة دليل هذه القاعدة هي حكم العقل و سيرة العقلاء. و من الواضح أنّ الذي يراه العقل في حكمه و العقلاء في سيرتهم مقتضي العدل ليس هو التنصيف في مطلق الموارد؛ حيث إنّه ربما يكون التنصيف في نظر العقل خلاف مقتضي العدل، بل إنّما الذي يراه العقل مقتضي العدل في مصبّ هذه القاعدة

هو التقسيم بالسوية؛ لأنّ به يعطي كلّ ذي حقّ ما يستحقّه ظاهرا، لا بالتنصيف.

فاذا تردّد مال بين ثلاثة أشخاص يكون مقتضي العدل في نظر العقل هو التقسيم أثلاثا، و إذا تردد بين أربع يري العقل مقتضي العدل التقسيم بينهم أرباعا. فهذا هو الانصاف الملائم للعدل، لا التنصيف.

و قد سبق في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ العدل يضع الأمور مواضعها و هذا يلائم الانصاف بالمعني المقصود في المقام؛ لأنّ إعطاء كلّ ذي حق ما يستحقه ليس إلّا وضع الحقوق في مواضع استحقاقها. و كذا لو تردد درهم بين شخصين كان لأحدهما أربع دراهم و للآخر درهم واحد، ففقدت الدراهم و لم يبق عند الودعي إلّا درهم واحد، فمقتضي العدل حينئذ تقسيم الدرهم بينهما أخماسا و إعطاء صاحب الأربعة أربع أسهم و صاحب

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 207

الدرهم الواحد سهما واحدا من الدرهم الموجود، و إن كان في كون التقسيم علي هذا النحو في هذه الصورة مقتضي العدل كلام؛ إذ الدرهم الموجود بالأخرة مردّد بين شخصين، إما لهذا الشخص أو لذاك. و مجرد قوة احتمال كونه لصاحب الأربعة لا يجعل له سهما أكثر من الآخر. و بناء علي ذلك مقتضي العدل و الانصاف حينئذ التنصيف، لا التخميس.

و علي أيّ حال فالمعني الذي ينبغي أن يراد من الانصاف في نص هذه القاعدة هو التقسيم بالسوية الذي عبّر عنه في المصباح و غيره بقسمة التعديل، و بذلك يعطي كلّ ذي حق ما يستحقّه في الظاهر بحكم العقل و العقلاء فليس المقصود منه إعطاء النصف، كما جاء في معناه اللغوي.

و يشهد لذلك ما سيأتي من النصوص في تفسير العدل بالانصاف. و بناء علي ذلك يكون

العدل في عنوان هذه القاعدة بمعناه اللغوي و ما هو المعروف في علم الكلام و غيره، من التسوية في القسمة و القصد في الأمور الذي هو ضدّ الجور.

نعم لا ريب أنّ التنصيف إذا كان مطابقا من أحد مصاديق التقسيم بالسوية، و بهذا اللحاظ يكون من مصاديق الانصاف بالمعني المقصود، إذا لم يكن لأحدهما دليلا علي اختصاص الدرهم الموجود به؛ إذ المفروض أنّه لا مرجّح حينئذ لأحد الشخصين علي الآخر، فلا مناص من التنصيف؛ لأنه مقتضي العدل و الانصاف، و غيره خلاف مقتضاهما.

و هذا هو الذي جرت عليه سيرة العقلاء في مثل المقام، و لا منشأ لاستقرار سيرتهم علي ذلك إلّا كون التنصيف حينئذ مقتضي العدل؛ لأنه الملائم لارتكازهم العقلائي و المستحسن في نظر العقل، فلا موضوعية

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 208

للتنصيف بعنوانه في مصبّ هذه القاعدة.

و بناء علي ما ذكرناه في بيان مفاد هذه القاعدة من تقسيم المال أو الحق بين المستحقين بالسوية إنما تجري هذه القاعدة فيما إذا كان المال أو الحق المتردّد قابلا للتقسيم بالاشاعة أو العدد، بلا فرق بين كونه بنفسه قابلا للتقسيم و بين تقسيمه بلحاظ منافعه، كالعبد المتردّد ملكيته بين عدّة أشخاص، لو أمكن تقسيم منافعه بين المدّعين بالسوية عند عدم دليل لواحد منهم علي مدّعاه.

و أما إذا لم يمكن تقسيمه بأيّ وجه، كالطفل اللقيط المتردّد بين عدّة أشخاص مدّعين أو المتولّد من جارية وطأها قوم بالمبايعة فادّعي كل واحد منهم كون الولد له أو الموطوءة بالشبهة، فلا تجري هذه القاعدة؛ لعدم إمكان تقسيم الطفل بينهم بالسوية.

ثم لا يخفي أنّ مصبّ هذه القاعدة و إن كان في أغلب الموارد الحقوق المالية، إلّا أنّ الحقوق المالية سارية

في مختلف أبواب الفقه، من فرائضها المالية كما في الخمس و الزكاة، و معاملاتها و جزئيّاتها، بل و في غير الحقوق المالية، كما سيأتي ذكر بعض مواردها في التطبيقات الفقهية.

ثم إنّه ينبغي التنبيه في المقام علي أمرين:

أحدهما: ما يتوهم من استلزام التقسيم بالسوية الضرر علي المالك الواقعي لعدم وصول بعض ماله إليه دائما. و عليه فهذه القاعدة تفيد حكما ضرريا، و هو منفي بقاعدة لا ضرر.

و يمكن دفع هذا التوهم بأنّ قاعدة لا ضرر إنّما تنفي حكما يبتني أساس تشريعه علي الضرر فيما لم يقع ضرر بعد و إنّما نشأ من الحكم، و هذه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 209

القاعدة ليست من هذا القبيل. و ذلك لكون الكلام فيما ورد الضرر مع قطع النظر عن جريان هذه القاعدة، فالضرر الوارد أمر مفروغ عنه في المقام، و إنما يدفع بجريانها بعض الضرر عن المالك. و سيأتي مزيد توضيح لذلك في التعرّض لحكم معارضة هذه القاعدة مع ساير الأدلة.

ثانيهما: أنّ مع وجود القرعة فأيّ حاجة إلي هذه القاعدة، و لا سيما بلحاظ ما ورد في صحيح أبي بصير:

«ليس من قوم تقارعوا ثم فوّضوا أمرهم إلي اللّه عز و جل، إلّا خرج سهم المحق». «1»

و الجواب: أنّ القرعة إنما شرّعت لكلّ أمر مشكل، كما دلّت علي ذلك النصوص و اتفق عليه الفقهاء. و لا مشكل في المقام بعد حكم العقل بمفاد هذه القاعدة و جريان السيرة العقلائية عليها.

مدرك القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال لهذه القاعدة بوجوه:

الأوّل: حكم العقل.

لا ريب في أنّ حكم العقل أحد أدلّة هذه القاعدة، بل يظهر من بعض الفقهاء أنّه لا دليل عليها غير حكم العقل، كما صرّح بذلك السيد الحكيم قدّس سرّه؛ حيث قال: «لا دليل علي هذه القاعدة، إلّا ما يتراءي من كلام غير واحد من حكم العقل بذلك». «2»

و يمكن تقريب الاستدلال بحكم العقل بأحد الوجوه الثلاثة التالية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 188 ب 13 من كيفية الحكم ح 6 هذه الرواية صحيحة بطريق الصدوق.

(2) المستمسك: ج 14، ص 249.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 210

أحدها: أنّه لا ريب في كون العدل و الانصاف مستحسنا في نظر العقل؛ حيث إنّه يحكم بحسن العدل و الانصاف بالمعني الذي قلناه، و يري خلاف ذلك جورا، و يحكم بقبحه. و إنّه يستقل في موارد تردّد مال أو حقّ بين شخصين أو أشخاص أو اشتراكه بينهم بحسن رعاية العدل و الانصاف في تقسيم ذلك المال أو الحق بين أشخاص المدّعين إذا لم يكن لأحدهم دليل علي اختصاصه به مع العلم بكونه لأحدهم أو علي زيادة سهم في الشركة.

و يري التقسيم بالسوية و التعديل حينئذ مصداقا للعدل و الانصاف.

ثانيها: أنّه إذا تردّد شي ء بين شخصين و لم يعلم أنّه ملك لأيّهما و لم يكن لواحد منهما دليل علي ملكية ذلك الشي ء له، لا ريب حينئذ في أنّ إعطاء ذلك الشي ء بتمامه إلي أحدهما ترجيح بلا مرجح، و أنّ عدم إعطائه إلي واحد منهما مخالفة للعلم الإجمالي بكونه لأحدهما. فلا مناص حينئذ عند العقل إلّا تنصيف ذلك الشي ء بينهما؛ حيث إنّه يري الشخصين حينئذ متساويين في الاستحقاق ظاهرا مع عدم طريق له إلي

الواقع، فيري التقسيم بالسوية حينئذ مقتضي العدل و الانصاف.

و بعبارة أخري: بعد الجهل بالمالك في مفروض الكلام و عدم دليل لأحد من المدّعين و عدم إمكان إيصال المال إلي مالكه الواقعي، ينحصر علاج الواقعة ظاهرا في ثلاثة طرق.

الأوّل: عدم إعطاء المال المتردّد إلي واحد من المدّعين و لا ريب في بطلانه في نظر العقل؛ لكونه مخالفة قطعية للعلم الإجمالي بكون المال ملكا لأحدهم.

الثاني: إعطاؤه إلي واحد منهم، و لا يرتاب العقل في قبحه؛ لكنه ترجيحا

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 211

بلا مرجّح في نظره.

الثالث: التقسيم بالسوية؛ و لا مناص في نظر العقل إلّا من العمل به.

و ذلك لأنه في فرض عدم إمكان إيصال المال إلي مالكه الواقعي و عدم دليل و لا حجة معتبرة لأحد المدعين، و اليأس عن الواقع، يري العقل الطريق الأوّل مخالفة قطعية للعلم الإجمالي و ظلما؛ لاستلزامه القطع بحرمان المالك عن تمام ماله. و يري الطريق الثاني قبيحا لأنه ترجيح بلا مرجح، و إذا لا مناص في نظره من الطريق الثالث، بل يراه مصداقا للعدل حينئذ؛ نظرا إلي تساوي الاحتمالين في نظره، أي احتمال كون المال لهذا المدعي لا لذاك، و احتمال عكس ذلك، و إلي كون ترجيح أحدهما ترجيحا بلا مرجّح. فيري التقسيم بالسوية ترتيبا لكلّ من الاحتمالين علي حدّ سواء و مصداقا للعدل.

و قد نقل السيد الحكيم قدّس سرّه هذا التقريب و استظهره من كلام غير واحد. ثم أشكل عليه بما حاصله: أنّ عدم المرجح كما يقتضي التنصيف، يقتضي التخيير أيضا؛ إذ لا فرق في نظر العقل بينهما حينئذ، و إليك نصّ كلامه.

قال قدّس سرّه: «فانّ عدم المرجح كما يقتضي جواز التنصيف، يقتضي التخيير، نظير ما

ذكروه في مسألة الدوران بين الوجوب و الحرمة، من أنّ التخيير استمراري، و أنّ حكم العقل بالتخيير ابتداء بعينه يقتضي التخيير ثانيا، و أنّه لا فرق في نظر العقل بين احتمال الموافقة المقرون باحتمال المخالفة، و بين القطع بالمخالفة المقرون بالقطع بالموافقة. ففي المقام تخصيص أحد الشخصين بتمام المال يوجب الموافقة الاحتمالية المقرونة بالمخالفة الاحتمالية، و التوزيع يوجب الموافقة القطعية المقرونة بالمخالفة القطعية.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 212

و لا فرق بينهما في نظر العقل». «1»

و يمكن ردّه برجحان التنصيف علي التخيير في نظر العقل؛ لأنه مقدّمة لتحصيل العلم بايصال مقدار من المال إلي صاحبه، بخلاف التخيير، فانه لا يوجب العلم بإيصال شي ء من المال إلي مالكه، كما يأتي بيان ذلك في التقريب الثالث. هذا مضافا إلي عدم معقولية التخيير الاستمراري في المقام؛ لأنه بعد إعطاء المال إلي واحد من المدعين لا يمكن العمل بالتخيير في أخذه منه و إعطائه إلي الآخر إلّا بايجاد نزاع جديد.

ثالثها: أنّ التنصيف في فرض الكلام طريق لتحصيل العلم بايصال نصف المال إلي صاحبه، و كذا التثليث بين ثلاثة أشخاص و التربيع بين أربعة، مقدمة للعلم بايصال مقدار من المال إلي مالكه الواقعي، و هذا بخلاف التخيير، فانه لا يوجب العلم بايصال شي ء من المال إلي مالكه، بل غايته احتمال إيصال المال بتمامه إلي مالكه. و لا ريب في كون تحصيل العلم بايصال مقدار من المال إلي مالكه الواقعي راجحا، بل متعيّنا في نظر العقل.

و أما استلزام ذلك العلم باعطاء مقدار من المال إلي غير مالكه، فلا مناص عنه في تحصيل العلم بايصال مقدار من المال إلي مالكه. و لا ينافي ما قلناه- من تعيّن الطريق الثالث

إعطاء مقدار من المال إلي غير مالكه الواقعي لا يصال مقدار منه إلي مالكه الواقعي- حرمة غير المالك الواقعي فيما وصل إليه بالتقسيم و لو كان بحكم الحاكم؛ نظرا إلي دخوله في عمومات حرمة اكل المال بالباطل، و أما الحاكم فلا مناص له من ذلك.

______________________________

(1) المستمسك: ج 14، ص 249- 250.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 213

الثاني: سيرة العقلاء.

بدعوي استقرار سيرتهم في المال المتردّد بين شخصين أو عدّة أشخاص- مع عدم بيّنة و لا حجّة لواحد منهم- علي تقسيمه بينهم بالسوية، بأن يقسّم بالتنصيف لو تردّد بين شخصين و بالتثليث لو تردّد بين ثلاثة أشخاص، و بالتربيع لو تردّد بين أربعة و هكذا.

و النكتة العقلائية الارتكازية التي هي سبب لاستقرار هذه السيرة بين العقلاء، أنّهم يرون التقسيم بالسوية حينئذ مقتضي العدل و الانصاف في ارتكازهم العقلائي و قريحتهم المشتركة بين جميع العقلاء و يرون خلاف ذلك مخالفا للعدل و الانصاف.

و ذلك لأنّ تخصيص المال المتردّد بواحد منهم أو تقسيمه بينهم بلا سوية يرجع في نظرهم حينئذ إلي الترجيح بلا مرجح، و هو قبيح عقلا.

فهذه السيرة لها في الحقيقة جذر في حكم العقل. و لم يرد من الشارع ردع لهذه السيرة، بل قد وردت منه نصوص يستفاد منها إمضاؤها. و سيأتي ذكر هذه النصوص.

و قد أشكل المحقق الخوئي علي الاستدلال بهذه السيرة بأنّه: «لم يثبت بناء و لا سيرة من العقلاء علي ذلك حتي تكون ممضاة لدي الشارع، اللّهم إلّا إذا تصالحا و تراضيا علي التقسيم علي وجه التنصيف فانه أمر آخر، و إلّا فجريان السيرة علي ذلك بالتعبد من العقلاء أو الشارع استنادا إلي ما يسمّي بقاعدة العدل و الانصاف لا أساس له،

و إن كان التعبير حسنا مستحسنا». «1»

______________________________

(1) مستند العروة/ كتاب الخمس: ص 147.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 214

و يرد عليه أولا: منع عدم جريان سيرة العقلاء علي تقسيم المال المتردّد بالسوية في فرض المقام بالتقريب الذي ذكرناه.

نعم بناء علي التقريب الذي ذكره من إيصال مقدار من المال إلي غير مالكه مقدّمة للعلم بوصول المقدار الآخر إلي المالك، بطريق قياس المقدّمة الوجودية- كبذل مقدار منه لمخارج الايصال- بالمقدمة العلمية، لعلّ إشكاله وارد؛ لما أشار إليه من كون قياس إحدي المقدّمتين بالآخر مع الفارق. و لكن بالتقريب الذي ذكرناه لا ريب في جريان السيرة عليه.

و ثانيا: منع كون جريان السيرة علي ذلك بتعبّد من العقلاء؛ لما أشرنا إليه من نشأة هذه السيرة من النكتة العقلائية المرتكزة في أذهانهم؛ و أنّ هذه السيرة مستندة إلي الارتكاز العقلائي و القريحة العامة المشتركة بين جميع العقلاء، بل لها جذر في حكم العقل، كما قلنا.

و لكن هذا العلم صرّح في موضع آخر من كلامه بقيام السيرة القطعية علي قاعدة العدل و الانصاف و التوزيع بالسوية في الحقوق المالية.

قال قدّس سرّه: «و إن كان المراد من ذلك هو قاعدة العدل و الانصاف و الجمع بين الحقوق، كما يظهر ذلك من ذيل كلامه، فهو و إن كان متينا لقيام السيرة القطعية عليه في الحقوق المالية، بل ورد عليه الخبر في الودعي؛ فإن العرف قاض بجواز بذل مقدار من المال مقدمة للعلم بوصول مقدار منه إلي صاحبه، نظير المقدمات الوجودية كبذل مقدار من المال لإيصال مقدار الآخر إلي صاحبه، و هو حسن». «1»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة/ طبع بيروت: ج 7، ص 262.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 215

الثالث: الكتاب.

لا اشكال في دلالة كثير من الآيات القرآنية علي ترغيب الناس إلي العدل و الانصاف، بل علي وجوبهما، بل يستفاد من بعضها أنّ ذلك أساس تشريع بعض الأحكام.

فمن هذه الآيات ما أمر فيه بالاقساط، كقوله تعالي: «وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» «1» و قوله تعالي: «وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». «2»

و الاقساط هو العدل و الانصاف، كما صرّح بذلك الطبرسي في مجمع البيان بقوله: «الاقساط العدل و الانصاف». «3» و أصل الاقساط من القسط و هو العدل البيّن الظاهر بالمكيال و الميزان. و من هنا سمّيا قسطا؛ لأنهما يظهران العدل في الوزن، كما صرّح به أبو هلال و فرّق بذلك بين العدل و القسط. «4» و قد سمّي النصيب قسطا؛ لأنه السهم الذي يستحقه صاحبه بمقتضي العدل.

و قد أجاد الراغب في بيان معني الاقساط؛ حيث قال: «و القسط هو النصيب بالعدل، كالنصف و النّصفة … و الاقساط أن يعطي قسط غيره، و ذلك إنصاف». «5» و قال الزمخشري: «قسّط بينهم المال: قسّمه علي القسط

______________________________

(1) الحجرات: 9.

(2) المائدة: 42.

(3) تفسير مجمع البيان: ج 3- 4، ص 4.

(4) راجع الفروق اللغوية: ص 428، ش 1720.

(5) المفردات: ص 403.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 216

و السوية». «1»

إلي غير من كلمات أهل اللغة الواردة في معني الاقساط المفسّرة له بالعدل و الانصاف، بل صرّح به الطبرسي كما عرفت.

و عليه فالآيات الآمرة بالاقساط تأمر بالعدل و الانصاف الذي هو مقصود الفقهاء من نصّ هذه القاعدة. و هو العدل و الانصاف في تقسيم الأموال و الحقوق. هذا مع كون العدل و الانصاف بالمعني الأعم في هذه القاعدة لا يضرّ بالمطلوب؛ لأنّ أعميّة

الدليل من المدّعي لا يضرّ بدليلته.

و لمّا يحكم به العقل يكون الأمر الوارد في هذه الآيات إرشادا إلي حكم العقل.

و منها: الآيات الآمرة بالعدل كقوله تعالي: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ» «2».

و قوله تعالي: «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» «3» و غيره من الآيات.

وجه الدلالة أنّ الانصاف من مصاديق العدل، كما سبق في بيان معناهما في أصل اللغة، مضافا إلي ما سبق في تقريب الدليل العقلي من أنّ التقسيم بالسوية في مفروض الكلام من مصاديق العدل و الانصاف.

و يشهد لذلك تفسير العدل بالانصاف في بعض النصوص. مثل ما ورد عن علي عليه السّلام في تفسير قوله عليه السّلام: «العدل الانصاف و الاحسان التفضّل»، «4» بل ورد عن الباقر عليه السّلام: «لا عدل كالإنصاف». «5»

______________________________

(1) أساس البلاغة: ص 76.

(2) النحل: 90.

(3) النساء: 58.

(4) نهج البلاغة صبحي الصالح: ص 509/ الحكمة: ص 231 و رواه أيضا في البحار: ج 74، ص 412.

(5) البحار: ج 78، ص 165.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 217

الرابع: السنّة.

الروايات الصالحة للاستدلال بها لهذه القاعدة طائفتان.

الاولي: روايات متواترة عامّة أمر في طائفة منها بالانصاف، و في طائفة أخري رغّب إلي الانصاف و ذكرت فيها محاسنه و فضائله و ما يترتب عليه من الفوائد. و لا حاجة إلي ذكر هذه النصوص لكثرتها. فليراجع المعاجم الروائية في عنوان «الانصاف» و موادّه المختلفة.

و لفظ الانصاف في هذه النصوص بمعناه العام، و هو شامل لمصبّ هذه القاعدة، بلا ريب و لا إشكال، كما عرفت معني لفظ الانصاف من كلمات أهل اللغة. و كذا العدل، فانّ ما ورد من النصوص الآمرة به أكثر من أن تحصي.

الثانية: نصوص خاصّة واردة في مختلف أبواب الفقه،

يستفاد من مجموعها مفاد هذه القاعدة بنطاقها الواسع.

فمن هذه النصوص ما ورد في درهم أو دراهم تردّدت بين شخصين.

مثل صحيح عبد اللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«في رجلين كان معهما درهمان. فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: هما بيني و بينك، فقال: أمّا الذي قال: هما بيني و بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، و إنّه لصاحبه و يقسّم الآخر بينهما». «1»

و لا يخفي أنّ التعبير بغير واحد لا ظهور له في الارسال، كما قد يتوهم بل ظاهر في عدة أشخاص كثيرة يورث إخبارهم الاطمئنان، إمّا لكثرة

______________________________

(1) الوسائل: ج 13، ص 169، ب 9 من أبواب الصلح، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 218

عددهم أو للاطمئنان بوجود الثقة فيهم. فلا إشكال في سنده. و أما دلالته علي المطلوب فلقوله عليه السّلام: «يقسّم الآخر بينهما»؛ حيث دل علي تقسيم الدرهم المتنازع فيه بالسوية في فرض عدم إقامة دليل من جانب أحد المتنازعين علي اختصاص الدرهم به.

و موثق السكوني عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام:

«في رجل استودع رجلا دينارين، فاستودعه آخر دينارا، فضاع دينار منها.

قال عليه السّلام: يعطي صاحب الدينارين دينارا، و يقسّم الآخر بينهما نصفين». «1»

و الوجه في حكمه عليه السّلام باعطاء أحد الدرهمين الموجودين إلي صاحب الدرهمين عدم ضياعه قطعا. فانّ الدرهم الضائع متردّد بين درهم له و بين درهم للرجل الآخر. و عليه فمقتضي العدل و الانصاف تنصيف أحد الدرهمين الموجودين بينهما و إعطاء الدرهم الآخر إلي صاحب الدرهمين؛ لعدم ضياعه بل هو موجود باق كما كان.

و ما رواه المشايخ الثلاثة بطرقهم عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن

علي عليهم السّلام «في رجل أقرّ عند موته: لفلان و فلان، لأحدهما عندي ألف درهم، ثم مات علي تلك الحال. فقال علي عليه السّلام: أيّهما أقام البيّنة فله المال. و إن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان». «2»

و منها: ما ورد في رجلين اختصما في دابّة و لم تكن في يد واحد منهما، و كلاهما أقاما البينة أو لم يقمها واحد منهما، و حلفا جميعا أو لم يحلف واحد منهما، فحكم أمير المؤمنين عليه السّلام بينهما بالتنصيف.

______________________________

(1) المصدر: ج 13، ص 171، ب 12، ح 1.

(2) وسائل الشيعة: ج 13، ص 400، ب 25، من الوصايا، ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 219

مثل موثق إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«إنّ رجلين اختصما إلي أمير المؤمنين عليه السّلام في دابّة في أيديهما، و أقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده. فأحلفهما علي عليه السّلام. فحلف أحدهما و أبي الآخر أن يحلف، فقضاها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البينة؟ فقال عليه السّلام: احلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فان حلفا جميعا جعلتهما بينهما نصفين». «1»

و صحيح غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام اختصم إليه رجلان في دابة و كلاهما أقاما البينة أنه أنتجها، فقضي بها للذي في يده، و قال عليه السّلام: لو لم تكن في يده جعلته بينهما نصفين». «2»

و مثلهما خبر تميم بن طرفة. «3»

و منها: ما ورد في امرأة ماتت قبل زوجها أو بالعكس. أو امرأة طلّقها زوجها فادّعي كل واحد منهما أنّ المتاع له، فحكم الإمام عليه

السّلام بتقسيم ما كان مشتركا بين الرجال و النساء من المتاع بينهما نصفين. و ذلك مثل ما حكم به أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام في صحيح يونس بن يعقوب بقوله: «و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما». «4» و في صحيح رفاعة- بطريق الصدوق- بقوله عليه السّلام: «و ما يكون للرجال و النساء قسّم بينهما». «5»

و لا يخفي عليك ما أشرنا إليه آنفا من عدم اختصاص هذه القاعدة بموارد التنصيف، بل يسع نطاقها كلّ إعطاء حق إلي مستحقّه بقدر

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 182، ب 12 من أبواب كيفية الحكم، ح 2.

(2) المصدر: ح 3.

(3) المصدر: ح 4.

(4) وسائل الشيعة: ج 17، ص 525، ب 8 من ميراث الأزواج ح 3.

(5) وسائل الشيعة: ج 17، ص 525، ب 8 من ميراث الأزواج، ح 4.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 220

ما يستحقّه. و يشهد لذلك موثق إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«في الرجل يبضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب و آخر عشرين درهما في ثوب، فبعث الثوبين و لم يعرف هذا ثوبه و لا هذا ثوبه، قال عليه السّلام: يباع الثوبان فيعطي صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن. و الآخر خمسي الثمن». «1»

هذه النصوص و إن لم ترد فيها كبري كلية تفيد هذه القاعدة، إلّا أن الموارد التي حكم فيها بالتقسيم بالسوية في هذه النصوص لا تتصوّر خصوصية لها و لا يخطر بالبال وجه للحكم فيها بالتقسيم بالسوية في الارتكاز العقلائي و الفهم العرفي إلّا كون ذلك من مصاديق العدل و الانصاف، كما أنّ التقسيم بحسب السهام في موثق إسحاق بن عمار لا وجه له

في ارتكاز أهل العرف و العقلاء، إلّا كون إعطاء كل ذي حق حقه مصداقا للتقسيم بالعدل و الانصاف. و بذلك يتم الاستدلال بهذه النصوص لإثبات هذه القاعدة.

و من هذه النصوص ما عدّ فيه التقسيم بالسوية و العدل من حق الرعية علي الامام.

و مما يدل علي ذلك ما رواه الصدوق باسناده عن أبي حمزة، قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام: ما حق الامام علي الناس؟ قال عليه السّلام: حقه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا. قلت: فما حقّهم عليه؟ قال عليه السّلام: يقسّم بينهم بالسوية و يعدل في الرعية، فاذا كان ذلك في الناس فلا يبالي من أخذ هاهنا و هاهنا». «2»

هذه الرواية لا كلام في رجال سندها، إلّا معلّي بن محمد و محمد بن

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 13، ص 170، ب 11 من أحكام الصلح، ح 1.

(2) الكافي: ج 1، ص 405، ب ما يجب من حق الامام علي الرعية و حق الرعية علي الامام ح 1.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 221

جمهور؛ بلحاظ ما قال النجاشي في حق الأوّل، من أنّه مضطرب الحديث، و في الثاني أنّه غال ضعيف الحديث. و لكن قد يقال بوثاقتهما بتوجيه نسبة الغلوّ و اضطراب الحديث إليهما بكونها بلحاظ اشتمال بعض رواياتهما علي مضامين غالية في حق الأئمة عليهم السّلام، و لا ينافي ذلك وثاقتهما، كما يشهد لوثاقة الأوّل قول النجاشي «كتبه قريبة» و قول ابن الغضائري في حقه «يجوز أن يخرج حديثه شاهدا»، و وقوعه في أسناد كامل الزيارات، و من هنا قوّي المحقق الخوئي وثاقة الرجل. و يشهد لوثاقة الثاني توثيق ابن قولويه إيّاه.

و أما دلالة: فلا إشكال في دلالتها علي وجوب كون التقسيم بالسوية

و العدل علي نحو القضية الكلية الحقيقية. و من الواضح أنّ التقسيم بالسوية و العدل لا ينحصر في التنصيف، بل له مصاديق عديدة. و إنما الضابطة فيه كون التقسيم بالسوية في فرض عدم تفاوت السهام، أو علي نحو يعطي به كل ذي حق ما يستحقه بمقتضي العدل في موارد تفاوت السهام و ذلك إمّا واقعا كما في موارد الشركة، أو ظاهرا كما في موارد التردّد.

ثم لا يخفي أنّه لا يصح نقض هذه القاعدة بما ورد في القرآن في تقسيم التركة أنّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. و ذلك لعدم كون تلك الآيات في مصبّ هذه القاعدة؛ حيث لم ترد في المال المشترك أو المتردد بين شخصين أو أشخاص، بل هو حكم تعبدي في الميراث الذي خرج عن ملكية صاحبه بالموت، مع أنّ المالك لو كان يقسّم ماله بين أشخاص بغير السوية، لم يكن عليه ملامة و لا تقبيح من جانب العقلاء؛ لأنّ المال ملكه فله أن يتصرّف فيه كيف شاء، فلا ربط لذلك بما نحن فيه؛ لكي تنقض به هذه القاعدة.

و أيضا ورد في خبر جابر المروي عن العلل: «إذا قام قائمنا عليه السّلام فانه يقسّم

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 222

بالسوية و يعدل في خلق الرحمن البرّ و الفاجر». «1» فتحصّل أن هذه النصوص بأجمعها لا إشكال في تمامية دلالتها علي دليليتها لإثبات هذه القاعدة.

نعم مع فرض حكم العقل بذلك تكون الكبري الواردة في هذه النصوص إرشادا إلي حكم العقل، و أما مصاديقها الواردة في هذه النصوص لا خصوصية لها كما قلنا.

و أما مع فرض استقرار السيرة علي مفاد هذه القاعدة و مصبّها تكون هذه النصوص- بما بينّاه من تقريب الاستدلال- إمضاء

للسيرة العقلائية.

و أما سيرة المتشرعة فيشكل إحرازها مع وجود السيرة العقلائية؛ لفرض أنّ لسيرة المتشرعة جذرا عقلائيّا في ذلك.

و قال في الجواهر: «و قد تظافرت النصوص أنّه عليه السّلام- أي أمير المؤمنين عليه السّلام- كان يقسّم بين الناس بالسوية، حتي صارت من أوصافه العدل بالرعية و القسمة بالسوية». «2»

هل هي أمارة أو حكم أو أصل؟

لا ريب في عدم كون هذه القاعدة أصلا؛ لوضوح عدم اندراجه تحت أحد الاصول العملية الأربعة من البراءة و الاستصحاب و الاحتياط و التخيير، و لا غيرها، كأصالة الحلية و نحوها.

و لا إشكال في عدم كونها حكما لعدم تضمّنها حكما تكليفيا من الأحكام الخمسة و لا حكما وضعيا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 6، ص 195، ب 36، من المستحقين للزكاة، ح 1.

(2) جواهر الكلام: ج 21، ص 216.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 223

بل هي إما أمارة، و ذلك لأنّها في نظر العقل و سيرة العقلاء طريقا لا يصال الحق إلي مستحقه الواقعي؛ حيث إنّهم يرون العدل و الانصاف أقرب طرق و أحسنها إلي إصابة الحق الواقع في موارد تردّد المال بين شخصين أو عدّة أشخاص. و لا تغفل ما نبّهنا عليه سابقا من عدم كون المقصود منها التنصيف، بل بمعني إعطاء كل شخص حقه الذي يستحقه.

و إما حكم؛ نظرا إلي اقتضائها وجوب التقسيم بالعدل و الانصاف، أو وجوب إعطاء كل ذي حقّ قدر ما يستحقّه.

حالها مع معارضة ساير الأدلة

هذه القاعدة لمّا كان عمدة دليلها حكم العقل و سيرة العقلاء إنّما تحكّم فيما إذا لم يرد من الشارع نصّ خاص يدلّ علي التقسيم بكيفية خاصّة، كما ثبت في تقسيم الارث بصراحة قوله تعالي: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ». «1»

فاذا ثبت بنصّ من الكتاب و السنة تقسيم شي ء في مورد بكيفية مخصوصة لا ريب في العمل بذلك النص و تقديمه علي هذه القاعدة في ذلك المورد.

و ذلك لأنّ الأحكام الشرعية توقيفية تعبدية لا تصاب بالقياس و الاستحسان و حكم العقل، فاذا ورد نصّ من الشارع علي خلاف حكم العقل أو السيرة العقلائية في مورد نستكشف بالنص الشرعي الوارد

تخطئة حكم العقل أو السيرة العقلائية في ذلك المورد.

______________________________

(1) النساء: 11.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 224

و ذلك لكون حكم الشارع فوق حكم العقل؛ لأنّ الحاكم فيه هو اللّه الذي خلق العقل، و لأنّ الاحاطة بملاكات الأحكام الشرعية التعبدية فوق حدّ تشخيص العقل. و إنّما حكم العقل حجّة في الشرعيات ما لم يخطّئه الشارع.

و لا يخفي أنّ في المقام لا تخالف بين العقل و الشرع في أصل لزوم العدل و الانصاف، إلّا أنّهما قد يتخالفان في تشخيص مصاديق العدل و الانصاف، لو كان للعقل حكم في تشخيص ذلك المصداق.

و علي أيّ حال لا إشكال في تقديم النص الوارد في تقسيم شي ء بكيفية مخصوصة علي هذه القاعدة، لا أظنّ أن يلتزم فقيه بخلاف ذلك.

ثم إنّه قد يتوهم معارضة هذه القاعدة مع قواعد اخري، كقاعدة لا ضرر و قاعدة القرعة و قاعدة الصلح.

أما قاعدة لا ضرر: فقد يتوهم انّ التقسيم بالسوية يستلزم الضرر علي المالك الواقعي؛ لأنه يوجب حرمانه من بعض ماله دائما. و عليه فهذه القاعدة تفيد حكما ضرريا، و هو منفيّ بقاعدة لا ضرر و عند المعارضة تقدّم قاعدة لا ضرر لحكومتها علي جميع الأحكام الأولية و الأمارات.

و يمكن دفع هذا التوهم بأنّ قاعدة لا ضرر إنّما تنفي حكما ينشأ الضرر من تشريعه. و أما في مصبّ هذه القاعدة فالضرر وارد مع قطع النظر عن جريانها. فانّ ورود الضرر في مجري هذه القاعدة أمر مفروغ عنه قبل جريانها. و إنّما يدفع بجريانها بعض الضرر الوارد عن المالك. و أما ورود الضرر عليه يدفع بعض ماله إلي غيره فهو مقدمة لا يصال بعض ماله إليه: إذ لا مناص من ذلك.

و عليه فلا تخالف

و لا معارضة بين هاتين القاعدتين، بل هذه القاعدة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 225

توافق قاعدة لا ضرر و تؤكّد مضمونها.

و أما قاعدة القرعة: فقد يتوهم أنها تمنع عن التقسيم بالسوية، مع العلم بكون المال المتردد بتمامه ملك أحد المدّعين و لا سيما بلحاظ ما ورد في بعض روايات القرعة من خروج سهم المحقّ بالقرعة.

و الجواب: أنّ القرعة إنما شرّعت لكلّ أمر مشكل، كما دلّت علي ذلك نصوص القرعة و اتّفق عليه الفقهاء، و لا مشكل في مصبّ قاعدة العدل و الانصاف بعد حكم العقل بمفادها و جريان السيرة العقلائية عليها. و عليه فهذه القاعدة واردة علي قاعدة القرعة؛ لأنّها تعدم بجريانها موضوع قاعدة القرعة، و هو الأمر المشكل؛ نظرا إلي ارتفاع المشكلة بجريانها.

و أما قاعدة الصلح: فلا ريب في تقدمها علي هذه القاعدة؛ لأنّ بها يحصل استرضاء أهل الدعوي و بذلك تنقلع مادّة النزاع، من دون حاجة إلي التمسك بحجّة.

هذا مضافا إلي عدم امكان الالتزام بعموم قوله: «القرعة لكل أمر مشكل» لاتفاق الأصحاب علي عدم مشروعية القرعة في كثير من موارد الاشتباه و الشبهة و التردّد و لا سيما في الحقوق الجزائية و الامور العبادية، و إلّا للزم تأسيس فقه جديد، كما أشار إليه بعض الأعلام.

و قد يشكل في المقام بأنه مع العمل بقاعدة العدل و الانصاف لا يبقي مورد للقرعة فيصبح دليلها بلا مورد و لغوا.

و الجواب: أنّ مورد هذه القاعدة كما قلنا، ما إذا كان المال المتردد قابلا للتقسيم، و لا تجري فيما ليس قابلا كالمرأة المتنازع في زوجيتها مع عدم الدليل، و كذا الولد الرضيع المتردد بين شخصين يدعيه كلّ منهما لنفسه؛

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية،

ج 1، ص: 226

لعدم كون الحرّ قابلا للبيع حتي يقسم بينهما بالسوية، أو ما إذا قال إحدي زوجاتي طالق، أو واحد من عبيدي حرّ، أو علمنا بكون إحدي الشياه من قطيع الغنم موطوئة، أو توقّف دفع الخطر عن جماعة علي إلقاء واحد منهم لا بعينه في معرض الخطر، فيعيّن ذلك الشخص بالقرعة كما ينظر إليه قوله تعالي: «فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» في قصّة يونس عليه السّلام أو اختلف جماعة في تكفّل طفل يتيم أم شخص سفيه فيعين الكفيل منهم بالقرعة، كما ورد في قوله تعالي: «إِذْ يُلْقُونَ أَقْلٰامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ»، إلي غير ذلك من الحقوق و الامور المتنازع فيها التي لا تقبل التقسيم.

و كذا في إفراز المال المشترك بعد تقسيمه حسب السهام أو بالسوية و تعيين حصّة كل من المعيّن ففي الأرض المشتركة بعد تقسيمها بين الشركاء فيقع الخلاف في كيفية تعيين الحصص في الخارج لاختلاف رغباتهم حسب اختلاف مواضع الأرض، فالجانب الشرقي منها مثلا ربما يكون أكثر رغبة و قيمة من الغربي أو بالعكس، مع عدم حصول غرضهم ببيع الأرض كلها و تقسيم ثمنها بينهم بالسوية أو حسب السهام، لكونه إرثا أو لغرض آخر فلا مناص في تعيين الحصص و إفرازها إلّا بالقرعة إلي غير ذلك من موارد النزاع مع عدم دليل لواحد من المتنازعين.

التطبيقات الفقهية

قد تمسّك الفقهاء بمضمون هذه القاعدة في موارد عديدة من مختلف أبواب الفقه. و من تتبع في كلمات الفقهاء- القدماء و المتأخّرين- يجد أنّهم يحكمون بالتقسيم بالسوية في كل مورد لا دليل علي اختصاص واحد من المستحقين و المشتركين بسهم أكثر من الآخر.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 227

و يعلّلون ذلك بأنه لا ترجيح لواحد منهم

علي الآخر، كما في الانفاق فيما إذا تعدّد المستحقون للنفقة الواجبة من الأرحام بالنسب، أو التقسيم فيما إذا تساوت الشركاء في السهام من حيث رأس المال و العمل، أو إعطاء حق القسم فيما بلغ عدد الزوجات إلي الأربعة. و قد حكموا فيما إذا تخالفت السهام في المقدار بالتقسيم علي أساس السهام.

فانهم و إن لم يصرّحوا في هذه الموارد بنص قاعدة العدل و الانصاف، إلّا أنّه يستفاد من سياق كلامهم أنّهم استندوا فيها إلي هذه القاعدة؛ حيث علّلوا التقسيم بالسوية بعدم جواز الترجيح بلا مرجح و بأصالة التسوية، كما سبقت الاشارة إلي ذلك في بيان منصّة هذه القاعدة في كلمات الفقهاء.

فيعلم من ذلك أنّه مع عدم المرجح يكون التقسيم بالسوية بحكم العقل، و أنّه مقتضي العدل و الانصاف؛ إذ قد عرفت أنّ حكم العقل بقبح الترجيح بلا مرجح هو مبني حكمه بحسن العدل و الانصاف، بل لزومه مع فقد المرجح. و مع وجود المرجح يكون التقسيم بحسب السهام و الحصص هو مقتضي العدل و الانصاف.

فمن هذه الموارد ما أفتي به صاحب الشرائع في شخصين تنازعا في ثوب و في يد أحدهما أكثره، فحكم في الشرائع بتقسيم الثوب بينهما بالسوية. و علّل ذلك في المسالك بقوله: «لاشتراكهما في مسمّي اليد و لا ترجيح لقوّتها». «1» و مرجع كلامه إلي أنّ تفضيل من في يده أكثر الثوب في التقسيم ترجيح بلا مرجّح.

______________________________

(1) المسالك: ج 4، ص 297.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 228

و منها: من لم يف ما زاد علي نفقة نفسه بنفقة أبويه المعسرين كليهما، فقد حكم الشيخ بتقسيمه بينهما بالسوية؛ معلّلا بقوله: «إنّهما تساويا في الدرجة و ليس أحدهما أولي من صاحبه، أشركنا

بينهما و من قدّم أحدهما فعليه الدلالة». «1»

و حكم قدّس سرّه أيضا بتقسيم النفقة بالسويّة بين الأب و الابن المؤسرين، إذا لم تف بهما معا. و علّله بقوله: «لا ترجيح لأحدهما، فوجب التسوية». «2»

و قد علّل ذلك ابن إدريس في الموردين المزبورين بقوله: «لأنّهما متساويان في النسب الموجب للنفقة. و تقديم أحدهما علي صاحبه يحتاج إلي دليل». «3»

و منها: مسألة تقسيم ماء الزرع بين شخصين لا مزية لأحدهما علي الآخر بالسوية، و علّل ذلك العلّامة بقوله: «لنا تساويهما في الاحتمال فيقسّط عليهما بالسوية، كما لو تنازعا دارا؛ لعدم المرجّح». «4»

و منها: ما لو قارض شخص عاملين مبلغا للمضاربة و لم يشترط تفضيل أحدهما في سهمه من الربح، فحكم العلامة أولا: بتقسيم الربح بين العاملين و بين صاحب المال بالتنصيف، و ثانيا: بتقسيم النصف الآخر من الربح بين المعاملين بالسوية. و علّل ذلك باقتضاء الاطلاق و أصالة عدم التفضيل. «5»

______________________________

(1) الخلاف: ج 5، ص 125، م 27.

(2) الخلاف: ج 5 ص 126، م 30.

(3) السرائر: ج 2، ص 657.

(4) منتهي المطلب: ج 1، ص 499.

(5) تذكرة الفقهاء/ الطبع الحجري: ج 2، ص 230.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 229

و منها: مسألة الوقف و الوصية فقد حكموا بأنّ إطلاق كلّ من الوقف و الوصية يقتضي التسوية بين الموقوف عليهم، و كذا الموصي لهم، في الانتفاع من العين الموقوفة و تقسيم المال الموصي به في الوصية التمليكية و توزيع الوظائف العملية في الوصية العهدية؛ معلّلا بعدم دليل علي التفضيل و الترجيح. كما في المختصر النافع «1» و كشف الرموز «2».

و قد يعبّر عن دليل ذلك بأصالة التسوية و لكنّها تنتهي في الحقيقة إلي عدم جواز

الترجيح بلا مرجح. و يشهد لما قلنا تعليل العلامة ذلك- في ردّ ابن الجنيد القائل بأن للذكر مثل حظّ الأنثيين- بقوله: «لنا: الأصل يقتضي التسوية، فلا يجوز العدول عنه إلّا بدليل، كما لو أقرّ لهم أو أوصي لهم». «3»

و نظيره في المسالك. «4»

و في مسألة الوصية علّل ذلك- في ردّ الشيخ و ابني الجنيد و البراج القائلين بالخلاف، و تقوية ابن إدريس القائل بالتسوية- بقوله: «لنا: أصالة التسوية». «5» و قد علّل ذلك في المسالك بقوله: «و أما اقتضاء إطلاق الوصية التسوية، فالاستواء نسبة الوصية اليهم و انتفاء ما يدلّ علي التفضيل في كلام الموصي، فلا فرق فيه بين الذكر و الأنثي، و لا بين الأخوال و الأعمام «6»

______________________________

(1) المختصر النافع: ص 158 و 164.

(2) كشف الرموز: ج 2، ص 53 و 76.

(3) مختلف الشيعة: ج 6، ص 308.

(4) المسالك: ج 5، ص 352.

(5) المصدر: ص 384.

(6) هذا التفصيل من الشيخ في النهاية و ابني الجنيد و البراج؛ حيث حكموا في ذلك للأعمام بالثلثين و للأخوان بالثلث.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 230

و غيرهم. و اختلافهم في استحقاق الارث جاء من دليل خارج و لا يقاس عليه ما يقتضي التسوية». «1» إلي غير ذلك من الفروع المنبثّة في مختلف أبواب الفقه.

و مع ذلك فقد تمسّكوا بنص هذه القاعدة في موارد عديدة.

و ممن تمسك بهذه القاعدة هو الفقيه النحرير السيد محمد العاملي في مسألة حق القسم للزوجات المتعددة. فانه بعد ما استظهر من كلام الشيخ و العلامة وجوب ضمّ النهار إلي الليلة في ثبوت حقه القسم لكلّ امرأة، قال:

«و دليله غير واضح علي الخصوص، و إن كان المصير إلي ما ذكره مقتضي العدل

و الانصاف». «2»

و منهم: صاحب الحدائق، فانه علّل التسوية بين الزوجات في الانفاق و حسن المعاشرة و الجمع و طلاقة الوجه بقوله: «لما في ذلك من رعاية العدل و الانصاف». «3»

و منهم: صاحب الجواهر فيما إذا تداعي شخصان في درهم فادّعي كلّ منهما ملكيته لنفسه و لا بيّنة لواحد منهما و كان تحت يدهما معا أو لا يد لواحد منهما عليه. فحكم حينئذ بتنصيف الدرهم بينهما لو كانا شخصين، و بالتثليث لو كانوا ثلاثة، و هكذا.

فإنّه- بعد ترجيح التنصيف علي القرعة في مثل المقام و نفي كون التنصيف بمقتضي يد كل واحد منهما؛ نظرا إلي معارضتها بالأخري- قال:

______________________________

(1) المسالك: ج 6، ص 231.

(2) نهاية المرام/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 420.

(3) نهاية المرام/ طبع جماعة المدرسين: ج 1، ص 420.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 231

«و حينئذ فليس النصف المحكوم به في النص و الفتوي، إلّا لقطع الخصومة بينهما بذلك بالعدل و الانصاف. لعدم تحقق الدعوي من أحدهما و الإنكار من آخر، لكون المفروض تساويهما من كل وجه، ففي الحقيقة ليس إلّا دعوي واحدة، و هي ملكية الدرهم إلّا أنّ أحدهما يدعي أنّها له، و الآخر كذلك، و لا ترجيح لأحدهما، بعد معارضة يد كل منهما للأخري، الموجب للتساقط، نحو البينتين المتعارضتين من كل وجه، فيقسّم المال بينهما … فإن كانا اثنين فالنصف، و إن كانوا ثلاثة فالثلث، و هكذا؛ قطعا للخصومة بينهما بالعدل و الانصاف». «1»

ثم صرّح قدّس سرّه بعد أسطر بأنّ الحكم بتنصيف الدرهم المتردد إنما هو لأجل هذه القاعدة؛ أي العدل و الانصاف.

قال قدّس سرّه: «فيقسّم بينهما نصفين علي الاشاعة للقاعدة التي ذكرناها، التي قد أومي إليها في

الخبرين السابقين المعتضدين بالفتوي المجرّدة عن ملاحظة اقتضاء اليد». «2»

و لا يخفي أنّ مقصوده من الخبرين صحيح عبد اللّه بن المغيرة و مرسل محمد بن أبي حمزة المنجبر بالشهرة «3» و من القاعدة التي ذكرها هي قاعدة العدل و الانصاف المصرّح بها في كلامه.

و هو قدّس سرّه بالتمسّك بهذه القاعدة ردّ ما استشكله في المسالك و الدروس؛ حيث قال: «و لا إشكال بعد النص و الفتوي و القاعدة التي أشرنا إليها في

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 26، ص 224.

(2) جواهر الكلام: ج 26، ص 225.

(3) راجع المصدر: ص 223.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 232

قسمة المال بين مدعيه- قلّوا أو كثروا- بالسوية، بعد فرض استوائهم». «1»

و من الموارد التي استدلّ فيها بهذه القاعدة ما إذا علم قدر مال الغير و لم يعرف صاحبه بعينه، بل إنّما علم في عدد محصور. فقد ذكر هناك للخروج عن عهدة ضمان المال و التخلص عن الجميع وجوه: من استرضاء الجميع بالمصالحة أو إجراء حكم مجهول المالك أو القرعة أو التوزيع بينهم بالسوية.

و قد قوّي صاحب العروة «2» الأخير، أي التوزيع بينهم بالسوية.

و علّله السيد الحكيم «3» و السيد الخوئي «4» بأنه مقتضي العدل و الانصاف، و لكنّهما أشكلا علي تمامية هذه القاعدة، و قد عرفت الجواب عنهما في بيان مدرك القاعدة.

و منها: ما لو علم أنّ شخصا إمّا أتلف منّا من حنطة زيد أو منّا من شعيره و اختلفا في القيمة. فقد صرّح السيد الحكيم «5» بأنّ مقتضي قاعدة العدل و الانصاف التوزيع حينئذ بين الحنطة و الشعير بالسوية فيضمن الشخص نصف كلّ واحد منهما، بل هذا المورد أولي من صورة تردّد المالك- المنصوص فيها التوزيع بالسوية-

بالعمل بالقاعدة؛ إذ لا يضيع فيه حق المالك؛ إذ يصل إليه تمام المنّ، و لكن هناك يعطي بعض حقه و يحرم من البعض الآخر.

______________________________

(1) المصدر: ص 226.

(2) العروة الوثقي/ كتاب الخمس/ المسألة 30 من فروع الحلال المختلط بالحرام.

(3) المستمسك: ج 9، ص 497.

(4) مستند العروة/ كتاب الخمس: ص 146.

(5) المستمسك: ج 9، ص 501.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 233

و منها: ما لو ضرب شخص حاملا فأسقطت حملها، فقطع آخر رأسها، و جهل حال الحمل و لم يعلم أنّ له حياة مستقرّة أو لا؟، فقد حكموا حينئذ بسقوط القود عن كليهما. و أما الدية فاحتمل وجوه، بل أقوال أربعة.

أحدها: أنّ الدية علي الثاني. ثانيها: تعيين من عليه الدية بالقرعة. ثالثها:

أخذ الدية من بيت مال المسلمين. رابعها: توزيعها عليهما بالسوية. و قد قال المحقق السيد الخوئي في توجيه هذا الوجه الأخير: «لا دليل عليه عدا ما يمكن أن يقال: إنّ هذا مقتضي قاعدة العدل و الانصاف». «1» ثم أشكل علي إطلاق هذه القاعدة بما أجبنا عنه في بيان مدرك القاعدة، و إن كان في تطبيقها علي هذا الفرع نظر.

هذه الفروع نماذج من مجاري هذه القاعدة و تطبيقاتها الفقهية، و من أراد الفحص فليراجع مظانّها في مختلف أبواب الفقه.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: ج 2، ص 418.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 235

قاعدة نفي سبيل الكفار علي المسلمين

اشارة

1- منصّة هذه القاعدة 2- تحرير مفاد القاعدة 3- مدرك القاعدة 4- هل هي أمارة أو أصل أو حكم؟

5- مجاري القاعدة و تطبيقاتها 6- حالها مع معارضة ساير الأدلة

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 237

منصّة هذه القاعدة

إنّ لهذه القاعدة منصّة خطيرة من بين ساير القواعد الفقهية المبحوث عنها. و ذلك لما لها من الدور الكبير في اعتلاء كلمة الإسلام و المسلمين، و تفوّق النظام الحكومي الاسلامي علي الدول الكافرة، و لا سيما الاستكبار العالمي الأمريكي الصهيوني.

و ذلك لأنّ الطواغيت الكافرة الأمريكية و الصهيونية يرون حق استخدام صنعة الذّرّية النووية في المقاصد العسكرية و توليد اسلحتها مختصّا بأنفسهم و زملائهم المستكبرين. و قد أحرزوا تطوّرات و إنجازات ملموسة بارزة في توليد هذه الأسلحة.

و لكن لا يرون لدول العالم الثالث، و لا سيّما نظامنا الاسلامي الثائر حقا و لا حظّا من هذه التّقنية العسكرية المتطوّرة.

و هذه القاعدة تنادي بأعلي صوت أنّ اللّه تعالي لم يشرّع في الشريعة الاسلامية أيّ حكم يوجب سلطة الكفار علي المسلمين و بلادهم و نواميسهم، و عدم مشروعية أيّ حكم و قانون يستتبع هذا المعني.

و يتضح في ضوء هذه القاعدة بطلان ما نسبه بعض مسئولي نظامنا إلي الشريعة الاسلامية، من عدم مشروعية استخدام هذه الصنعة في

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 238

المقاصد العسكرية؛ مستشهدا ببعض أحكام الجهاد الابتدائي الدعائي، من حرمة إلقاء السمّ في الماء و إحراق المزارع، و نحو ذلك.

فان هذه القاعدة تثبت لنا أنّ هذه الفكرة لا أساس صحيح شرعي لها، بل- مضافا إلي مشروعية استخدام هذه الصنعة- يكون استخدامها في المقاصد العسكرية من الواجبات الأكيدة؛ نظرا إلي توقف اقتدار النظام الاسلامي و تفوّقه العسكري علي

نظام الاستكبار العالمي الكافر، و لا سيّما الطواغيت الأمريكية و الصهيونية علي تطوّرنا و تقدّمنا في هذه الصنعة و استخدامها في المقاصد العسكرية؛ عملا بقوله تعالي:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ». «1»

و قوله تعالي: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «2».

و لو لا ذلك ليسري الرعب و الوحشة إلي مسئولي الدول الاسلامية تدريجا، و يسلب جرأتهم علي المقاومة قبال تجاوزات العدوّ الأمريكي و الصهيوني، بل يستلزم ذلك ذلّتهم و مسكنتهم امام ميولهم الجائرة العادية و انحرافهم إلي أهوائهم الطاغية.

تحرير مفاد القاعدة

لبّ مفاد هذه القاعدة هو نفي سبيل الكفار و منع سلطتهم علي المسلمين. و يمكن التعبير عن مفادها بنفي استيلاء الكفر علي الإسلام و وجوب علوّ الإسلام و تفوّقه علي الكفر في جميع الجهات.

و المقصود من ذلك أن في المعاملات و المرابطات بين المسلمين و الكفار

______________________________

(1) سورة الأنفال: الآية 60.

(2) سورة النساء: الآية 141.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 239

يحرم علي المسلم أن يعمل عملا يوجب سلطة الكفار علي المسلمين، كإجارة نفسه أو دابته أو أرضه للكافر، و إجارة المعامل بأنحائها المختلفة و الأجهزة و الآلات الصناعية، و بيعها لهم، و تعليم أنحاء التّقنيّات و تكنيكها العسكرية و الطبيّة و الكهربائية و المخابراتية و الاقتصادية و غير ذلك.

و بالجملة تفيد هذه القاعدة حرمة كلّ عمل و فعل يوجب سلطة الكفار و استيلائهم علي المسلمين و ينتهي إلي غلبة ملّة الكفر علي الإسلام، بلا فرق بين كون الفعل صادرا من فرد واحد من المسلمين أو جماعاتهم أو من جانب قائد المسلمين و حاكمهم، نعم هو أغلظ تحريما إذا صدر من حاكم المسلمين و رئيسهم؛ لأنّ ما يلزم من فعله من سيطرة

الكفار علي المسلمين أشدّ مما يلزم من فعل فرد عادي من المسلمين كإجارة نفسه أو أرضه لشخص من الكفار.

و حاصل مفاد هذه القاعدة أنّ اللّه تعالي لم يشرع في شريعة الإسلام حكما يقتضي سلطة الكفار و سيطرتهم علي المسلمين بأيّ نحو كان.

و عليه فكلّ ما يقتضي خلاف ذلك من إطلاقات الأدلة الاولية أو عموماتها يقيّد بمدلول هذه القاعدة، بل هي حاكمة علي إطلاقات جميع الأدلة الأولية كحكومة قاعدة نفي الحرج و الضرر.

مدرك القاعدة

اشارة

قد استدل لهذه القاعدة بأمور:

الأوّل: الإجماع.

بدعوي تحصيل إجماع الأصحاب علي وجوب رعاية علوّ المسلمين علي الكفار في فروع مختلف أبواب الفقه. و هذا كاشف عن ابتناء تشريع

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 240

جميع الأحكام علي هذا الأساس و أنّه لم يجعل في شريعة الإسلام حكم يوجب سلطة الكفار علي المسلمين.

فقد تمسك بهذه القاعدة قدماء الأصحاب و متأخّروهم في موارد عديدة.

فمنهم الشيخ الطوسي؛ حيث استدل بهذه القاعدة علي بطلان شراء الكافر عبدا مسلما.

فإنّه قدّس سرّه قال: «و دليلنا قوله تعالي: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و هذا عام في جميع الأحكام». «1»

و كذا قال بعين هذا التعبير في الاستدلال علي مسألة بطلان توكيل الكافر في شراء العبد المسلم. «2» و في الاستدلال علي مسألة عدم استحقاق الذمي الشفعة علي المسلم. «3» و في مسألة عدم جواز قتل مسلم بكافر. «4»

و منهم ابن زهرة فقد استدل بها علي المسألة الاولي. «5»

و منهم ابن إدريس في المسألة الثانية، إلّا انّه لم ير للوكيل الكافر سبيلا علي موكّلته المسلمة، «6» و في المسألة الثالثة، «7» و في الاستدلال علي انفساخ عقد النكاح إذا أسلمت زوجة الكافر «8» و في مسألة بيع جارية الكافر إذا

______________________________

(1) الخلاف: ج 3، ص 188، م 315، المبسوط: ج 6، ص 129.

(2) المصدر: م 317، ص 190.

(3) المصدر: ص 453، م 38، المبسوط: ج 3، ص 139.

(4) الخلاف: ج 5، ص 145، م 2.

(5) غنية النزوع: ص 210 و علي المسألة الثالثة و الرابعة. المصدر: ص 234 و 404.

(6) السرائر: ج 2، ص 87.

(7) المصدر: ص 388.

(8) المصدر: ج 2، ص 543.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1،

ص: 241

أسلمت بغير اختيار مولاها الكافر. «1»

و منهم صاحب الشرائع و العلامة في جميع كتبه و ابنه فخر المحققين ابن فهد الحلّي و المحقق الكركي و الشهيد الثاني و المحقق الأردبيلي و الشيخ البهائي و الفقيه السبزواري و غيرهم من الفقهاء المتأخرين و متأخري المتأخرين. فقد تمسّكوا بهذه القاعدة في مسائل كثيرة من الفقه، أشرنا هاهنا إلي بعضها. و لم ينكر أحد منهم حجية هذه القاعدة في شي ء من هذه المسائل. نعم وقعت المناقشة كثيرا في تحقق مصداق سلطة الكافر علي المسلم.

و لكن هذا الاجماع غير صالح للدليلية؛ لما استدل به الأصحاب من الكتاب و السنة في المقام. فان الاجماع يصير بذلك مدركيا و لا يكون كاشفا تعبّديا عن رأي المعصوم.

الثاني: قوله تعالي: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»

. «2» بتقريب أنّ المنفي هو السبيل الناشئ من تشريع الحكم؛ لوضوح وجود السبيل التكويني الناشئ من الأسباب الخارجية للكفّار. و جعل السبيل إذا تعدّي ب «إلي» يفيد ايجاد الطريق و إمكان الوصول، و إذا تعدّي ب «علي» يفيد ايجاد السلطة و الاستيلاء. و هذا معلوم لمن تتبّع و تأمّل في موارد استعمالهما.

و حيث لا يعقل نفي السلطة التكوينية الخارجية؛ لما نشاهده بالوجدان

______________________________

(1) المصدر: ج 3، ص 22.

(2) النساء: 141.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 242

من سلطة الكفار علي المسلمين في طي القرون، مع ما هو معلوم بصراحة الكتاب من جريان سنة اللّه (تعالي) علي إملاء الكفار و إمهالهم في مطامع الدنيا و زخارفها و القدرة و السلطة المادّية. فلا مناص من كون المقصود نفي السلطة الناشئة من تشريع الحكم. فيكون ظاهر الآية أنّه لم يشرّع في شريعة الإسلام حكما يوجب سلطة الكفار علي المؤمنين.

و لفظ «لن» يفيد نفي الأبد. و

يستفاد من لفظ «لن» - الظاهر في نفي الأبد- أنّ إطلاق هذه الآية آب عن التقييد.

و لفظ «المؤمنين» في استعمالات القرآن جاء بمعني مطلق المسلمين، لا خصوص الشيعة الاثني عشرية.

و الحاصل: أنّ معني الآية نفي كلّ حكم يوجب سلطة الكفار علي المسلمين بأيّ نحو من أنحاء السلطات.

و عليه فكل حكم يوجب ذلك غير مشروع في شريعة الإسلام. و من هنا يكون مفاد هذه الآية حاكما علي إطلاقات جميع الأدلة الأولية إذا كانت مستتبعة لهذا المحذور. و لا يخفي أنّ هذه الآية هي عمدة دليل هذه القاعدة و أدلّ ما استدل به في المقام.

و أشكل علي الاستدلال بهذه الآية في المقام.

أولا: ببعض ما دلّ من النصوص علي أنّ المقصود نفي السبيل للكفار علي المؤمنين يوم القيامة، مثل ما رواه الطبري في تفسيره باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«قال رجل: يا أمير المؤمنين أ رأيت قول اللّه وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، و هم يقاتلوننا فيظهرون و يقتلون؟ قال له علي عليه السّلام: ادنه ادنه. ثم قال عليه السّلام: فاللّه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 243

يحكم بينهم يوم القيامة، وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا يوم القيامة». «1»

قوله «ادنه» قال ابن الأثير في النهاية أنّه أمر بالدنوّ و القرب، الهاء فيه للسكت جي ء بها لبيان الحركة.

و ما دلّ منها علي أنّ المقصود نفي الحجة لهم علي المؤمنين يوم القيامة، مثل ما رواه الطبري أيضا في تفسيره باسناده عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: «ذاك يوم القيامة، و أمّا السبيل في هذا الموضوع فالحجّة، و روي أيضا عن السدي أنّه الحجّة». «2»

و ما دل منها علي أنّ المقصود نفي

الغلبة في الحجّة مطلقا، مثل ما رواه ابن بابويه بسنده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال: «فانه يقول: و لن يجعل اللّه للكافرين علي المؤمنين حجة. و لقد أخبر اللّه تعالي عن كفار قتلوا نبيّهم بغير الحق. و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل اللّه لهم علي أنبيائه سبيلا». «3»

و فيه: مضافا إلي ضعف أسناد هذه الروايات، أنّ الغلبة في الحجة أو في القيامة بعض مصاديق السلطة، و الآية تشمل بعمومها نفي جميع أنحاء السلطات، و ذلك بدلالة ما جاء فيها من النكرة في سياق النفي. فلا وجه لتخصيص هذا العموم، مع أنّ هذه الروايات بصدد بيان عدم إرادة نفي السلطة التكوينية و الغلبة في الحروب من السبيل المنفي في الآية، فلا نظر لها إلي نفي ما نحن بصدده.

و أما مسبوقية الآية بما يرتبط بالقيامة فلا توجب هدم ظهورها

______________________________

(1) جامع البيان في تفسير القرآن: ج 5، ص 214.

(2) جامع البيان: في تفسير القرآن ج 5، ص 214.

(3) تفسير البرهان: ج 1، ص 423.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 244

الاطلاقي، فان المورد لا يقيد إطلاق الخطاب، فلا تصلح تلك الآيات لتعيين مورد هذه الآية.

و ثانيا: بأنّ الجمع المحلّي بالألف و اللام في الكافرين و المؤمنين ظاهر في نفي سبيل جماعة الكفار علي جماعة المؤمنين، لا نفي سبيل آحادهم علي آحاد المسلمين أو علي جماعتهم.

هذا التوهم لا ينبغي أن يشكل به في المقام لوضوح إرادة جنس الكفار و المؤمنين في المقام. و استعمال الجمع المحلّي بالألف و اللام في الجنس غير عزيز، و القرينة السياقية و مناسبة الحكم و الموضوع تعيّن ذلك.

و أما ما قال بعض «1» من

أنّ المراد نفي الغلبة في عالم التشريع فغير صحيح؛ لأنّ الغلبة في عالم التشريع لا معني له ما لم يستتبع غلبة خارجية، بل المقصود هو نفي الغلبة و السيطرة الخارجية الناشئة من جعل الحكم الشرعي. و يفهم من ذلك بالدلالة الالتزامية أنّ المقصود هو نفي تشريع الحكم المستتبع لسلطة الكفار و تفوّقهم علي المسلمين.

الثالث: النبوي المشهور

، و هو قوله صلّي اللّه عليه و آله:

«الإسلام يعلو و لا يعلي عليه. و الكفار بمنزلة الموتي لا يحجبون و لا يرثون».

في بعض نسخ الفقيه المطبوع جاء لفظ «يرثون» و في الوسائل «يورثون» و الأصح الأوّل؛ لأنّ الكافر ممنوع من الارث فلا يرث مطلقا، و لو من المسلم. و أما وارثه المسلم فلم يمنع أن يرث من مورّثه الكافر. فالكافر يورّث و لا يرث.

______________________________

(1) راجع القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: ج 1، ص 189.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 245

هذا النبوي رواه الصدوق في الفقيه «1» مرسلا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله أيضا رواه الشيخ مرسلا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله في الخلاف. «2»

و رواه غيرهما من القدماء أيضا مرسلا عن النبي صلّي اللّه عليه و آله، إلّا أنّ ضعفه منجبر بعمل قدماء الأصحاب و إفتاء مشهورهم بمضمونه.

حيث استدلّ به الشيخ الطوسي لإثبات جواز إرث المسلم من الكافر و عدم جواز إرث الكافر من المسلم و لبيع العبد علي مولاه الكافر إذا أسلم في يده «3» و استدل به في المبسوط في مواضع عديدة.

منها: ما لو وجد لقيط في دار الإسلام فيحكم باسلامه- و ان احتمل كونه لكافر ذمّي- بدليل هذا النبوي. «4» و منها: وجوب قتل مسلم ارتد عن الإسلام إلي الكفر. «5»

و

استدل به القاضي ابن البراج لعدم جواز رفع الذمي بناء داره علي بناء المسلمين «6» و كذا استدل به في المهذّب. «7» و استدل به ابن زهرة علي عدم جواز شراء الكافر عبدا مسلما. «8» و علي عدم جواز رفع الذمي بناء داره علي بناء المسلمين. و استدل ابن إدريس بهذا النبوي لعدم جواز رفع الذمي بناء داره

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه/ طبع بيروت: ج 4، ص 243، ح 3/ 778.

(2) كتاب الخلاف/ طبع مؤسسة النشر الاسلامي: ج 4، ص 23.

(3) المصدر: ح 6، ص 419.

(4) المبسوط: ج 3، ص 342.

(5) المبسوط: ج 8، ص 70.

(6) جواهر الفقه: ص 51.

(7) المهذّب: ج 1، ص 395.

(8) غنية النزوع: ص 210.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 246

علي بناء المسلمين «1» و في مسألة إرث المسلم و حجبه الكافر دون العكس. «2»

و قد استدل به العلامة الحلي في المختلف و المنتهي و التذكرة، و ابن فهد في المهذّب البارع و المحقق الكركي في جامع المقاصد. و أكثر المتأخرين استدلّوا بهذا النبوي في مواضع عديدة.

فلا إشكال في هذا النبوي من جهة السند.

و أما من جهة الدلالة فلا ريب أنّ أيّ فعل و عمل موجب لسلطة الكفار علي المسلمين و اعتلاء الكفر علي الإسلام يدل هذا النبوي علي عدم كونه مشروعا. و ذلك لأنّ قوله صلّي اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلي عليه» ليس بمعني علوّ الإسلام و غلبته الخارجية و استيلاء المسلمين علي الكفار بالعلل و الأسباب التكوينية؛ نظرا إلي كون خلافه مشهودا بالوجدان، كما قلنا في تقريب الآية، بل المراد أنّ إرادة اللّه التشريعية إنّما تعلقت بعلوّ الإسلام، أي بجعل حكم يوجب

علوّ الإسلام و غلبته علي الكفر و ملّته و لم يشرّع حكما يوجب تفوّق الكفر و علوّه علي الإسلام.

هذا، مع أنّ المناسب لمقام تشريع الحكم المعلوم من ذيل النبوي، هو هذا المعني.

و أما إرادة علوّ الإسلام من جهة الحجة و البرهان و ارتقاء معالمه و تفوّق معارفه علي ساير الأديان بلحاظ كونه أكمل الأديان، فهو و إن كان داخلا في المعني اللّغوي العام للفظ «السبيل»، إلّا أنّه ليس مقصودا في الآية، فلا ينعقد لها ظهور تصديقي في هذا المعني.

______________________________

(1) سرائر: ج 1، ص 476.

(2) المصدر: ج 3، ص 266.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 247

و لا يخفي أنّ علوّ الإسلام و غلبته علي الكفر إنما يكون بارتفاع مجد الإسلام و ازدياد شوكته و انتشار معالمه و تعظيم شعائره، و من أهمّ ما يوجب ذلك ازدياد عزّة المسلمين و تفوّقهم و غلبتهم علي الكفّار. و لا ريب أنّ ذلك لم يتحقق بعد رسول اللّه إلي الآن. و أمّا تحققه في زمان ظهور امام العصر (عج) و إن كان مسلّما، كما ورد في النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السّلام، إلّا أنّ ذيل هذا النبوي قرينة كاشفة عن عدم كون المقصود من صدره الإخبار عن ذلك و لو في عصر ظهور الحجّة (عج)؛ حيث تعرّض لبيان الحكم الشرعي و هو عدم إرث الكافر و لا كونه حاجبا عن ارث المسلم فذيل هذا النبوي موجب لظهور صدره فيما قلناه، من تعلّق إرادة اللّه تعالي بتشريع حكم موجب لعلوّ السلام و شوكته و مجده و غلبة المسلمين و اعتلاء كلمتهم و تفوّقهم علي الكفار و المشركين.

و الحاصل: أنّ هذا النبوي بصدد الإخبار عن كون ما جعله

اللّه تعالي من الأحكام في هذه الشريعة موجبا لعلوّ الإسلام و أنه (تعالي) لم يجعل حكما يوجب علوّ الكفر و تفوّق الكفار و غلبتهم علي المسلمين.

الرابع: ضرورة الدين القاضية بشرف الإسلام

. و عزّة المسلمين و هذه الضرورة مستفادة من الكتاب و السنة، كقوله (تعالي): «وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ». «1» و قوله: «وَ يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ الْكٰافِرِينَ». «2» و عبّر عن هذا الوجه بمناسبة الحكم و الموضوع و بتنقيح المناط القطعي و لكنهما غير مناسبين، بل الأنسب التعبير عنه بضرورة

______________________________

(1) المنافقون: 8.

(2) الانفال: 7.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 248

الدين أو مذاق الشارع و مذاقه القطعي، حيث علمنا بضرورة الدين- المستفادة من الكتاب و السنة- عدم رضي الشارع بذلّة المسلمين و عزة الكفار و علوّهم و غلبتهم علي المؤمنين بأيّ وجه. فاذا كان هذا ديدن الشارع و مذاقه القطعي، فكيف يمكن أن تتعلّق إرادته بتشريع حكم يوجب علوّ الكفار و استيلائهم علي المؤمنين و قد عدّ بعض المحققين «1» هذا الوجه من أحسن وجوه الاستدلال في المقام، و أظنّ أنّ كلامه جيّد لا غبار عليه، إلّا أنّ هذا الوجه إنما يأتي فيما يوجب سلطة الكافر و علوّه علي المؤمن بحيث يصير ذليلا تحت سيطرة الكافر. فلا بد من تحقق هذا الموضوع. و يشكل إحراز ذلك في كثير من المسائل التي جعلها الفقهاء (قدس اللّه اسرارهم) من قبيل صغري هذه الكبري.

و حاصل الكلام: أنّه لا إشكال في حجية هذه القاعدة و إثبات حرمة كل فعل داخل في كبراها. و إنّما الكلام و الإشكال في إثبات صغري هذه الكلية، و انطباق ما يتوهم من فروعها علي كبري هذه القاعدة بحاجة

إلي التأمّل.

هل هي أمارة أو أصل أو حكم؟

لا ريب في عدم كون هذه القاعدة من الأمارات لوضوح عدم كون دليل هذه القاعدة بصدد جعل الحجية لما هو طريق بنفسه إلي الواقع و لا ما هو موجبا للظن به.

كما لا شك في عدم كونها من الاصول العملية؛ لعدم أخذ الشك في موضوعها و عدم كونها بصدد تعيين الوظيفة العملية للمكلّف عند تحيّره

______________________________

(1) و هو المحقق البجنوردي في قواعده: ج 1، ص 192.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 249

في مقام الامتثال و العمل بالوظيفة.

بل إنّما هي حكم كلي شرعي و هو حرمة كل فعل يوجب علوّ الكفار و سلطتهم علي المؤمنين، و إنما استفيد هذا الحكم الكلي بلسان إخبار الشارع عن عدم مشروعية ما يوجب ذلك.

مجاري القاعدة و تطبيقاتها

إنّ لهذه القاعدة مجاري عديدة في مسائل كثيرة مختلفة منبثّة في مختلف أبواب الفقه. و قد أشرنا إلي بعضها، مثل مسألة بطلان شراء الكافر عبدا مسلما، و مسألة بطلان توكيل الكافر لشراء عبد مسلم، و مسألة عدم استحقاق الذمي الشفعة علي المسلم، و مسألة عدم جواز قتل مسلم بكافر، و مسألة انفساخ عقد النكاح باسلام الزوجة، و مسألة جواز بيع الجارية بغير إذن مولاها الكافر إذا أسلمت.

و منها: اجارة العبد المسلم من جانب الكافر.

و منها: مسألة عدم جواز نصب الكافر متوليا علي الوقف و لا جعله وصيا و لا قيّما.

و منها: مسألة عدم جواز التقاط الكافر الولد اللّقيط المحكوم باسلامه.

و منها: عدم جواز بيع المصحف من الكافر.

و منها: مسألة عدم جواز رفع الذمي بناء داره علي بناء المسلمين، و مسألة إرث المسلم و حجبه الكافر دون العكس، إلي غير ذلك من المسائل.

و لكن الكلام في تحقق صغري هذه القاعدة في كثير من هذه الفروع.

فخالف جماعة

من الفقهاء انطباق كبري هذه القاعدة علي كثير من هذه

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 250

الفروع؛ لعدم كونها من قبيل صغري هذه القاعدة؛ نظرا إلي عدم كون الفعل فيها موجبا لسلطة الكافر و علوّه علي المؤمن بحيث يوجب ذلّته أو عدم كونه موجبا لعلوّ كلمة الكفر علي الإسلام. فلا بد في كل مورد من هذه الموارد من دقة النظر و التأمل من هذه الجهة.

فمن هذه الفروع عدم جواز بيع المصحف من الكافر؛ حيث استقر رأي المشهور علي ذلك و استدلوا له بهذه القاعدة، و لكن الامام الراحل قدس سرّه خالفهم في ذلك و قال انّ هذه القاعدة تقتضي جواز بيعه من الكافر بل رجحانه.

و وجه ذلك بأن بيع المصحف من الكفار، يوجب نشر معارف القرآن و تبليغه بين المشركين كما فعل ذلك المسيحيون بالمسلمين ببيع الانجيل و قد ابتلي المؤمنون بالعزلة و الانزواء بمنعهم بيع المصحف من الكفار؛ حيث صار ذلك سببا لعدم اطلاعهم عن معارف القرآن و تعاليمه العالية. «1»

حالها مع معارضة ساير الأدلة

قد سبق في تحرير مفاد هذه القاعدة أنها حاكمة علي ساير الادلة؛ حيث إنّ دليلها قد دلّ علي إخبار الشارع عن عدم تشريع ما يوجب علوّ الكفار و سبيلهم علي المؤمنين، و أن ما يوجب ذلك لم يرده الشارع من إطلاقات الأدلة الأوّلية و لا من عموماتها. و من هنا يتضيّق نطاق الأدلة الأوّلية بمفاد هذه القاعدة من أوّل تشريعها. كما أنّ الأمر كذلك في قاعدة لا ضرر و لا حرج.

______________________________

(1) راجع كتاب البيع للإمام الراحل/ طبع مؤسسة نشر آثار الامام الخميني: ج 2، ص 725.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 251

قاعدة وجوب تعظيم الشعائر

اشارة

1- مفاد القاعدة 2- مدرك القاعدة 3- التطبيقات الفقهية 4- مقتضي التحقيق

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 253

مفاد القاعدة

قال في مجمع البيان: «الشعائر المعالم للأعمال، و شعائر اللّه معالمه التي جعلها مواطن للعباد و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما، فهو مشعر لتلك العبادة. و واحد الشعار الشعيرة. فشعائر اللّه أعلام متعبّداته من موقف أو مسعي أو منحر، من شعرت به: أي علمت». «1»

و عليه فالمقصود من الشعائر في عنوان هذه القاعدة هو معالم دين اللّه و علاماته، و كل ما اتخذ شعارا للدين و علامة للشريعة.

و علي هذا الأساس يمكن تعميم عنوان الشعائر إلي الملائكة و الأنبياء و الأئمة، فانهم أعلام الهدي و علامات دين اللّه و متعبّدات أوامره و شرائعه، بل يلحق بهم الكتب السماوية و كتب الأحاديث و المساجد و الأولياء و الشهداء و العلماء و الفقهاء الكبار و مشاهدهم؛ حيث إنّ ذلك كلّه من أعلام الدين و معالم الشريعة و علائمها و مساكن تعبد اللّه فيها و مصادر طاعته.

و تعظيم الشي ء توقيره بمراعاة حرمته و ملاحظة مرتبته في العمل

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 239.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 254

و تطبيق السلوك العملي علي ما يليق بشأنه و يلائم حفظ منزلته، بل كلّ فعل يعد احتراما و رعاية له في نظر أهل العرف. و عليه فالمقصود من تعظيم الشعائر توقير معالم دين اللّه باتخاذ مسلك علمي يناسب منزلته. و ذلك بالعمل بأحكام الشريعة و رعاية حدودها و الاحترام بمقدّساتها.

ثم إنّ التعظيم قسمان، كما قال بعض المحققين. «1»

أحدهما: توقير الشي ء بمراعاة مرتبته و حفظ منزلته و تطبيق الفعل علي مقتضي شأنه

حسب نظر العرف أو الشرع، كما لو ورد عالم فقيه في مجلس، فانّ مقتضي شأنه يقام له و يجعل له ما يناسبه من المكان، و يكون ذلك تعظيما له.

و هذا القسم من التعظيم لا واسطة بينه و بين الاهانة. بمعني أنّ ترك التعظيم حينئذ يعدّ إهانة في نظر العرف.

و ذلك لأنّ التعظيم و التوقير إذا كان مقتضي شأن شي ء يكون ترك ذلك تخفيفا له و عدم الاعتناء بشأنه عرفا و تنزيله عن مرتبته و ليس الاهانة في نظر العرف إلّا ذلك. ففي المثال المزبور إذا ورد عالم فقيه في مجلس لم يقم له أهل ذلك المجلس و لم يجعلوا له مكانا مناسبا لشأنه، يكون ذلك إهانة به عرفا و هتكا بساحته و منزلته.

و عليه فهذا النوع من تعظيم الشعائر لا ريب في وجوبه؛ لأنّ تركه مستلزم للإهانة و الهتك بمحترمات الدين و مقدّسات الشريعة، و لا إشكال في حرمته. و إذا كان ترك التعظيم حراما يكون فعله واجبا، كما لا يخفي.

______________________________

(1) و القائل هو السيد مير فتاح في العناوين: ج 1، ص 558.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 255

ثانيهما: توقير الشي ء و احترامه و مراعاته زائدا عن مقتضي شأنه، كتقبيل يد العالم و الجلوس في محضره في غاية التأدب و الكلام معه في غاية الحياء و مشايعته كذلك وقت الذهاب، أو تقبيل باب المشاهد المشرفة و الضرائح المقدسة و الدخول فيها حافيا و الخروج منها مستقبلا إليها مع جعل اليد علي الصدر، أو جعل القرآن علي الرأس و العينين و تقبيله، و نحو ذلك من الاحترامات و التوقيرات التي تعدّ من التعارفات و المحسّنات.

و لا ريب في عدم كون ترك هذا النوع

من التعظيم و التوقير هتكا و إهانة، و إن كان فعلها محسّنا و ممدوحا. فاذا لم يكن تركه حراما، لا يكون فعله واجبا بمقتضي القاعدة إلّا أن يدلّ دليل خاص علي وجوب تعظيم الشعائر حتي في هذه الصورة، و سيأتي البحث عن ذلك.

مدرك القاعدة

اشارة

و قد يستدل لوجوب تعظيم الشعائر ببعض آيات من الكتاب و نصوص من السنة.

و أما الكتاب:

فاستدل بقوله (تعالي): «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ». «1» كما استدل به الصدوق في المقنع «2» و الهداية «3»، و المفيد في المقنعة «4» علي وجوب الهدي في الحج مهما أمكن و تيسّر، بل استدل به جماعة منهم علي

______________________________

(1) الحج: 32.

(2) المقنع: ص 272.

(3) الهداية: ص 214.

(4) المقنعة: ص 418.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 256

وجوب تعظيم شعائر اللّه مطلقا، كما عن المقدس الأردبيلي «1» و الميرزا القمي «2» و المحقق النراقي «3»، بل استدل في الحدائق بهذه الآية علي حرمة دخول الجنب في المشاهد المشرّفة و الضرائح المقدسة. «4»

و يمكن تقريب الاستدلال بهذه الآية بما حاصله: أنّ التقوي واجبة مطلقا؛ لإطلاق مثل قوله تعالي: «وَ إِيّٰايَ فَاتَّقُونِ». «5» و قوله: ««وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «6»، و غير ذلك من إطلاقات الكتاب و السنة. هذا مضافا إلي ظهور لفظ التقوي- حسب موارد استعماله- في صيانة النفس و الاحتراز عما فيه خوف العقاب.

و عليه يمكن استظهار وجوب تعظيم الشعائر من الآية بتقريب أنّ تعظيم الشعائر من التقوي بدلالة الآية، و كل تقوي واجب بدلالة إطلاقات الأمر به، فتعظيم الشعائر واجب و هو المطلوب. و لا يخفي أنّ الآية تدل باطلاقها علي كون تعظيم الشعائر مطلقا من التقوي، بلا فرق بين مصاديق التعظيم.

و يمكن فيه النقاش بأن ظهور لفظ «التقوي» بحسب اصطلاح الكتاب و السنة و لسان الفقهاء في الاتقاء عما فيه خوف العقاب الأخروي من المحرّمات و المعاصي، و إن ليس ببعيد، كما قال في المفردات «7»، إلّا أنّ الذي

______________________________

(1) زبدة البيان: ص

286.

(2) غنائم الأيام: ج 1، ص 436.

(3) عوائد الأيام: ص 8.

(4) الحدائق الناضرة: ج 3، ص 53.

(5) البقرة: 41.

(6) المائدة: 57.

(7) كما قال في المفردات: «التقوي جعل النفس في وقاية مما يخاف و صار التقوي في تعارف الشرع حفظ النفس عما يؤثم و ذلك بترك المحذور».

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 257

جاء في الآية هو لفظ «تقوي القلب»، لا التقوي وحده. و كون لفظ التقوي بالمعني المزبور فيما أضيف إلي القلب ممنوع بل هو بمعني تنزيه القلب عن رذائل الصفات و دنائس الأوهام و الأفكار و سيئات النيات و الأخلاق، كما قال في مجمع البحرين في بيان لفظ تقوي القلب.

و احتمل ذلك الطبرسي في تفسير هذه الآية، و مع تطرّق هذا الاحتمال كيف يمكن استظهار التقوي الواجبة من «تقوي القلوب» في هذه الآية.

هذا مع رجوع ضمير الهاء في «فانها» إلي تعظيم شعائر اللّه بتقدير المضاف كما قال في المجمع أو إلي شعائر اللّه كما هو مقتضي القاعدة بلحاظ كون شعائر اللّه من علامات تقوي القلوب، باعتبار أنها مما يمتحن اللّه بها قلوب المؤمنين للتقوي.

و علي أيّ حال لا يكون التعظيم ترك شي ء ليكون اتقاء عما فيه خوف العقاب من الحرام. فالأنسب كون المقصود أن شعائر اللّه أو تعظيمها من علائم صفاء القلب و خلوصه عن الرذائل و الدنائس و خضوعه و خشوعه للّه تعالي.

و يمكن الاستدلال بقوله تعالي: «لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ» علي وجوب تعظيم الشعائر و حرمة تركه، لكن لا مطلقا، بل في خصوص ما إذا كان ترك التعظيم مستلزما لهتكها و إهانتها.

و ذلك لأنّ اهانة بها اسقاطها و إهباطها عن شأنها و هو أحد معاني الاحلال كما مرّ سابقا.

و لا

يخفي أن دلالة هذه الآية علي ذلك انما هي بالملازمة لا بالمطابقة.

و أما السنة:

فقد يستدل لوجوب تعظيم شعائر اللّه بعموم الأمر بها في قول

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 258

الصادق عليه السّلام «و عظّم شعائر اللّه» في صحيحة معاوية بن عمار. «1»

و قوله عليه السّلام: «أيها الناس من كان عنده سعة فليعظم شعائر اللّه» في خبر دعائم الإسلام. «2»

و من هذه النصوص ما عدّ فيه تعظيم حرمات اللّه من فروع الدين، كالمروية في بصائر الدرجات عن الصادق عليه السّلام قال في حديث: «و من فروعهم …

إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم شهر رمضان و حج البيت و العمرة و تعظيم حرمات اللّه و شعائره و مشاعره و تعظيم البيت الحرام و المسجد الحرام و الشهر الحرام». «3»

و يمكن الجواب عن هذه الروايات بأنّ المقصود من الشعائر فيهما هو الهدي. و ذلك للتصريح بالأمر بشرائه في صدر صحيحة معاوية بقوله عليه السّلام:

«إذا رميت الجمرة فاشتر هديك إن كان من البدن أو من البقرة».

و أما خبر دعائم الإسلام فلأنّه من خطبة النبي صلّي اللّه عليه و آله يوم النحر.

و أمّا المروي عن بصائر الدرجات فبقرينة احتفاف ذكر حرمات اللّه و شعائره بحج البيت و العمرة و المشاعر و تعظيم البيت الحرام و المسجد الحرام.

و الحاصل أنّه لا يصلح شي ء من هذه النصوص لإثبات وجوب تعظيم الشعائر بمعناها الواسع.

______________________________

(1) فروع الكافي: ج 4، ص 491، ح 14 و الوسائل: ج 10، ص 97- 98.

(2) دعائم الإسلام: ج 2، ص 181، ح 656.

(3) بصائر الدرجات: ص 548.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 259

التطبيقات الفقهية

سبق آنفا أنّ جماعة من الفقهاء من القدماء و المتأخرين استظهروا من الآية المزبورة وجوب تعظيم الشعائر مطلقا. و لكن يظهر من

صاحب الرياض «1» استحباب تعظيم الشعائر. و في المفتاح- بعد نقله كراهة التجصيص و تجديد قبور غير الانبياء و الأئمة عليهم السّلام- نقل عن المسالك و المدارك و مجمع البرهان و المفاتيح: «أنّه لا يبعد استثناء قبور العلماء و الصلحاء أيضا استضعافا لخبر المنع و التفاتا إلي تعظيم الشعائر». «2»

و ظاهره عدم وجوب تعظيم الشعائر، بل غاية مدلول كلامه استحبابه؛ حيث استدل بذلك لجواز تعمير قبور العلماء و الصلحاء.

و كذا يظهر من صاحب الجواهر حيث علّل بذلك لاستحباب كنس المسجد بقوله: «و يستحب كنس المساجد قطعا، بمعني جمع كناستها و إخراجها؛ لما فيه من تعظيم الشعائر». «3» و كذا صرح بذلك الفقيه الهمداني. «4»

و لكن سبق من صاحب الجواهر انّه لا دليل علي وجوب تجنيب المحترمات عن النجاسات إلّا هذه القاعدة و قاعدة حرمة إهانة المحترمات.

بل قال في الاستدلال علي حرمة الاستنجاء بالمطعومات: «و لا يخفي عليك أنه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه ان يتطلب الدليل

______________________________

(1) الرياض: ج 1، ص 217.

(2) مفتاح الكرامة: ج 4، ص 281.

(3) جواهر الكلام: ج 14، ص 87.

(4) مصباح الفقيه/ الطبع الحجري: ج 2، ص 704.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 260

علي كل شي ء بخصوصه من رواية خاصة و نحوها، بل يكتفي بالاستدلال علي جميع ذلك بما دل علي تعظيم شعائر اللّه». «1»

و قد فصّل صاحب الجواهر في مبحث ذلك بقوله: «و أما التعظيم الذي يكون تركه تحقيرا فلا ينبغي الإشكال في وجوبه، بل لعله من ضروريات المذهب بل الدين، و لعل ما نحن فيه من هذا القبيل، و إن كان ليس لأهل العرف نصيب في معرفة التحقير بالنسبة للجنابة و نحوها، إلّا أنهم

يحكمون بذلك من جهة مؤانسة الشرع، كمنعه من دخول المساجد و مس كتابة القرآن و نحوهما؛ علي أنه يمكن دعوي وجوب التعظيم الذي لا يكون تركه تحقيرا من قوله تعالي: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ». نعم أقصي ما يسلم من عدم وجوبه إنما هو زيادة التعظيم، كوضع القرآن مثلا في أعلي الأماكن و أرفعها، و نحو ذلك». «2»

و يظهر من السيد الشهيد الصدر وجوب تعظيم الشعائر في بعض مراتب العالية، كالمشاهد المشرفة و ما فوقها حرمة، لا مطلقا؛ حيث قال:

«المشاهد المشرفة لا تقلّ مكانة و احتراما عن المسجد الاعتيادي؛ لأنّ صيانة المشهد الشريف من الهتك و الاهانة داخلة في المراتب المتيقّن وجوبها من مراتب تعظيم شعائر اللّه». «3»

و صرّح أستاذه السيد الخوئي «4» بأنّ تعظيم مطلق الشعائر لا دليل علي

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 2، ص 52.

(2) جواهر الكلام: ج 3، ص 47.

(3) شرح العروة الوثقي/ للسيد محمد باقر الصدر: ج 4، ص 315.

(4) التنقيح/ كتاب الطهارة: ج 2، ص 312.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 261

وجوبه ما لم يدل دليل علي وجوبه بالخصوص. «1»

و ممن يظهر منه وجوب تعظيم الشعائر مطلقا صاحب الحدائق. «2» فانه- مضافا إلي ما سبق منه آنفا- حكم بوجوب ما كتب عليه شي ء من علوم الدين و حفظه من الهتك و الاهانة، معلّلا بدخوله في الشعائر المأمور بتعظيمها في قوله تعالي: «وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ».

مقتضي التحقيق

مقتضي التحقيق في المقام ما قلنا في تحرير مفاد القاعدة، و هو وجوب تعظيم الشعائر إذا كان تركه مستلزما للهتك و إهانتها، و إلّا لا دليل علي وجوبه مطلقا. و هذا التفصيل هو الذي يظهر من صاحب الجواهر

و السيد الخوئي و السيد الشهيد الصدر و بعض المحققين. و دليل ذلك ما سبق في الاستدلال علي حرمة إهانة الشعائر و محترمات الدين.

و لا ريب في كون مفاد هذه القاعدة حكما، كما لا ريب في تقدّمها علي جميع الأحكام الأولية؛ نظرا إلي مالها من الأهمية في نظر الشارع، بحيث يمكن دعوي القطع بعدم رضاه بالاهانة بشعائر اللّه، نعم إذا دار الأمر بينه و بين ترك واجب أو ارتكاب حرام آخر، لا بد من ملاحظة الأهمية في تقديم أيّهما.

إلي هاهنا انتهينا إلي تمام الكلام في القسم الأوّل من القواعد الفقهية العامة من مباني الفقه الفعال.

______________________________

(1) المصدر: ص 313 و ج 5، ص 390.

(2) الحدائق الناضرة: ج 2، ص 46.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 262

و الحمد للّه أولا و آخرا و صلواته علي محمد و آله سرمدا.

و قد تمّ بعون اللّه تعالي و لطفه في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الثاني بسنة 1424 هق.

العبد الخجلان من ساحة ربّه الغفار علي أكبر السيفي المازندراني و أرجو منه تعالي رحمته و رضوانه و غفرانه لي و لواالدي و من الفضلاء و العلماء الكرام العفو و التذكار في موارد لا تخلو في نظرهم من النقاش.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 263

فهرس مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم

2- أساس البلاغة للزمخشري

3- أمالي الصدوق

4- أمالي الطوسي

5- أمالي المفيد

6- بحار الأنوار للعلّامة المجلسي

7- بصائر الدرجات للشيخ محمّد بن حسن الصفّار

8- بلغة الفقيه للسيّد محمّد بحر العلوم

9- تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّي

10- تفسير البرهان للسيّد هاشم البحراني

11- تفسير نور الثقلين للمحدّث الشيخ عبد علي الحويزي

12- التنقيح للسيّد الخوئي

13- التنقيح/ كتاب الاجتهاد و التقليد للسيّد الخوئي

14- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي

15-

جامع البيان لابن جرير الطبري

16- جامع المقاصد للمحقّق الكركي

17- جواهر الكلام لمحمّد حسن النجفي

18- حاشية الفرائد للمحقّق الخراساني

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 264

19- حاشية مجمع الفائدة للوحيد البهبهاني

20- الحدائق الناضرة للمحدّث البحراني

21- الخلاف للشيخ الطوسي

22- دروس الشهيد الصدر

23- دعائم الإسلام للقاضي نعمان بن محمّد

24- ذكري الشيعة للشهيد الأوّل

25- رجال البرقي

26- الرسائل للسيّد الخميني

27- رسائل الكركي

28- روض الجنان للشهيد الثاني

29- رياض المسائل للسيّد علي الطباطبائي

30- زبدة البيان للمحقّق الأردبيلي

31- السرائر للحلّي

32- شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده

33- العروة الوثقي للسيّد كاظم اليزدي

34- علل الشرائع للشيخ الصدوق

35- العناوين للسيّد مير عبد الفتّاح

36- عوائد الأيّام للمحقّق النراقي

37- عوالي اللآلي لابن أبي جمهور

38- عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق

39- غنائم الأيّام للميرزا القمّيّ.

40- غنية النزوع لابن زهرة

41- فرائد الاصول للشيخ الأنصاري

42- الفروق اللغويّة لأبي هلال العسكري

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 265

43- فقه الرضا عليه السّلام

44- القضاء و الشهادات للشيخ الأنصاري

45- القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي

46- القواعد الفقهيّة للشيخ محمّد الفاضل

47- الكافي للشيخ الكليني

48- كتاب البيع للسيّد الخميني

49- كتاب الطهارة للسيّد الخميني

50- كتاب القضاء للمحقّق الآشتياني

51- كفاية الأحكام للمحقّق السبزواري

52- كشف الرموز للفاضل الآبي

53- كشف الغطاء للشيخ جعفر كاشف الغطاء

54- كشف اللثام للفاضل الهندي

55- مباني تكملة المنهاج للسيّد الخوئي

56- المبسوط للشيخ الطوسي

57- مجمع البيان للشيخ الطبرسي

58- مجمع الفائدة و البرهان للمحقّق الأردبيلي

59- المختصر النافع للمحقّق الحلّي

60- مختلف الشيعة للعلّامة الحلّي

61- مدارك الأحكام للسيّد السند محمّد العاملي

62- مسالك الأفهام للشهيد الثاني

63- مستدرك الوسائل للميرزا النوري

64- مستمسك العروة الوثقي للسيّد الحكيم

65- مستند الشيعة للمحقّق النراقي

66- مستند العروة للسيّد الخوئي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 266

67- مصباح الاصول للسيّد الخوئي

68- مصباح الشريعة المنسوب للإمام

الصادق عليه السّلام

69- مصباح الفقاهة للسيّد الخوئي

70- مصباح الفقيه للفقيه الهمداني

71- المعتبر للمحقّق الحلّي

72- مفتاح الكرامة للسيّد محمّد جواد العاملي

73- المفردات للراغب الأصفهاني

74- مقالات الاصول للمحقّق العراقي

75- المقنع للشيخ الصدوق

76- المقنعة للشيخ المفيد

77- المكاسب للشيخ الأنصاري

78- المكاسب المحرّمة للسيّد الخميني

79- المنتهي للعلّامة الحلّي

80- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق

81- منية السائل للسيّد الخوئي

82- المهذّب لابن البرّاج

83- المهذّب البارع لابن فهد الحلّي

84- النهاية للشيخ الطوسي

85- نهاية المرام للسيّد السند محمّد العاملي

86- نهج البلاغة (تنظيم صبحي صالح)

87- نوادر الراوندي

88- الهداية للشيخ الصدوق

89- وسائل الشيعة للحرّ العاملي

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 271

[انتشارات المؤسسة]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* الحمد للّه، و صلّي اللّه محمّد نبيّ اللّه، و علي آله آل اللّه

لقد قامت مؤسّستنا- بفضل اللّه و منّه- بنشاطات واسعة في مجال نشر المعرفة و إحياء التراث العلمي الإسلامي، فإلي روّاد العلم سرد بعضها، سائلين الباري عزّ شأنه قبول الأعمال و الوصول إلي درجة الكمال، إنّه سميع متعال.

1- اصول الفقه (4 أجزاء): للشيخ المظفّر.

2- الأمالي: للشيخ المفيد.

3- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: للسيّد محسن الخرّازي.

4- بحوث في الملل و النحل (6 أجزاء): للشيخ جعفر السبحاني.

5- بداية الحكمة: للعلّامة الطباطبائي.

6- بداية المعارف (جزءان): للسيّد محسن الخرّازي.

7- التمهيد في علوم القرآن (6 أجزاء): للشيخ محمّد هادي معرفة.

8- التوحيد: للشيخ الصدوق.

9- جامع الأثر: للسيّد حسن آل طه.

10- الخصال (جزءان): للشيخ الصدوق.

11- الخلاف (6 أجزاء): للشيخ الطوسي.

12- دروس في علم الاصول (جزءان): للشهيد الصدر.

13- الذخيرة: للسيّد المرتضي.

14- رجال النجاشي: للنجاشي.

15- الرسائل التوحيدية: للعلّامة الطباطبائي.

مباني الفقه الفعال في القواعد الفقهية الأساسية، ج 1، ص: 272

16- الرسائل العشر: للشيخ الطوسي.

17- رسالة في صلاة الجمعة: للشهيد الثاني.

18- صيانة القرآن من التحريف: للشيخ محمّد هادي

معرفة.

19- العدل الإلهي: للشهيد المطهّري.

20- العروة الوثقي (6 أجزاء): للسيّد الطباطبائي.

21- العقائد الجعفرية: للشيخ الطوسي.

22- فرائد الاصول: للشيخ الأنصاري.

23- الفوائد المدنية: للمحدّث الأسترآبادي.

24- قاموس الرجال: للشيخ التستري.

25- كشف اللثام (11 جزء): للفاضل الهندي.

26- كمال الدين و تمام النعمة (جزءان): للشيخ الصدوق.

27- كنز الدقائق (11 جزء): للميرزا محمّد المشهدي.

28- مجمع الفائدة و البرهان (14 جزء): للمحقّق الأردبيلي.

29- مخالفة الوهّابية للقرآن: عمر عبد السلام.

30- مختلف الشيعة (9 أجزاء): للعلّامة الحلّي.

31- مستدرك سفينة البحار (10 أجزاء): عليّ النمازي الشاهرودي.

32- معاني الأخبار: للشيخ الصدوق.

33- مفاهيم القرآن (جزءان): للشيخ جعفر السبحاني.

34- المقنعة: للشيخ المفيد.

35- منازل الآخرة: للمحدّث القمّي.

36- المنطق: للشيخ المظفّر.

37- من هو المهديّ عليه السّلام: للشيخ أبو طالب التجليل.

38- الميزان (20 جزء): للعلّامة الطباطبائي.

39- الوهّابية في الميزان: للشيخ جعفر السبحاني.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.